في حديث أدلى به في يونيو الماضي، لفتني قول الدكتور قيس سعيّد، الذي حاز المركز الأول في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التونسية، وهذا نص قوله: «انتهى عهد الأحزاب.. الشعب صار يُنظم بطريقة جديدة. أنظروا ماذا يحدث في فرنسا مع السترات الصفراء وفي الجزائر والسودان. الأحزاب مآلها الاندثار.. مرحلة وانتهت في التاريخ.. جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية وبلغت أوجها في القن الـ19 ثم في القرن الـ20 ثم صارت بعد ثورة الاتصالات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا وفي حالة احتضار. ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها».
والحقيقة أن الأحزاب السياسية عموماً تبدو في المرحلة الراهنة من التطور السياسي مأزومة، ومن أعراض أزمتها التآكل السريع لأحزاب حاكمة كما حدث في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ومنها أن تأتي القيادات من خارج البنية الحزبية أصلاً ثم تنشئ لها أحزاباً كما فعل الرئيس الروسي بوتين ذي الخلفية الاستخباراتية، والرئيس الفرنسي ماكرون الذي تمرد على الأحزاب التقليدية وكوّن لنفسه حزباً قد يتآكل بعد رئاسته.. بل إن الرئيس الأميركي ترامب وإن ترشح من خلال الحزب الجمهوري فإنه لم يكن له أي نشاط في هذا الحزب. ومن الأعراض كذلك تراجع الأحزاب السياسية الكبرى كما في حالة حزبي «المحافظين» و«العمال» البريطانيين اللذين تواضعت مكاسبهما في الانتخابات المحلية الأخيرة. ومنها كذلك محاولات التغيير من خارج البنية الحزبية، كما تشير حالة حركة السترات الصفراء في فرنسا.
غير أن أزمة الأحزاب في العالم العربي عميقة الجذور، وحتى التجربة الليبرالية المصرية قبل ثورة 1952 انتهت إلى تفتت الحزب الشعبي الرئيسي فيها («الوفد») إلى عدة أحزاب، وعندما قامت الثورة ألغت الأحزاب واعتمدت فكرة التنظيم السياسي الواحد التي لم تنجح في بناء تنظيم قوي مستقل عن القيادة السياسية. وحاكت ثورةَ 1952 بعض النظم العربية التي انتهت تجاربها في التنظيم السياسي إلى المآل نفسه، وحتى البلدان التي حافظت على التعددية الحزبية، مثل لبنان، كانت الأحزاب فيها شخصية أو طائفية. كما أن حزباً مثل حزب «البعث» الذي جعل من الوحدة العربية هدفاً له، اختلط نشاطه السياسي باستخدامه المؤسسة العسكرية أداةً للتغيير، فأصبح أسيراً لها، وارتبط سجله داخل السلطة في سوريا والعراق بنظم غير ديمقراطية ناهيك عن فشلها في تحقيق الوحدة، وقد كانت أسوأ مرحلة في العلاقات بين البلدين هي فترة تولي الحزب السلطة فيهما، وهو ما عانت منه أحزاب قومية أخرى كالأحزاب الناصرية التي تعددت وتنافست في البلد الواحد. وبسبب هذا الضعف البين في بنية الأحزاب العربية يُلاحظ أن أهم عمليات التغيير السياسي في العالم العربي عقب الحرب العالمية الثانية ارتبطت بالمؤسسة العسكرية، ويُلاحظ أنه عندما تأكد فشل فكرة التنظيم السياسي الواحد وعادت دول مثل مصر إلى الأخذ بالتعددية الحزبية اعتباراً من 1976، لم تُفض هذه العودة إلى بنية حزبية قوية وفاعلة رغم مضي قرابة نصف قرن على التجربة.
ولا يوجد دليل على ضعف البنية الحزبية العربية أقوى من أن محاولات التغيير التي شهدها مطلع العقد الحالي مع ما عُرف باسم «الربيع العربي» قد جاءت من خارج البنى الحزبية تماماً، وفشلت القوى التي شاركت في هذه المحاولات في بناء أحزاب قوية بعد نجاحها في الإطاحة بأنظمة الحكم في بعض البلدان، بل عانت من تفتت تام فأفرزت شظايا تنظيمات سمحت لقوى «الإسلام السياسي» أن تمسك بزمام الأمور في بلد كمصر، وإن لم يدم حكمها سوى سنة واحدة بعد أن ثبت افتقارها لأدنى معايير الكفاءة في إدارة الدولة ناهيك بطبيعتها الشمولية، وجاءت الإطاحة بحكمها كذلك عن غير طريق الأحزاب، بتحالف بين المعارضة الشعبية والمؤسسة العسكرية.. لذلك كله فإن رأي قيس سعيّد ربما لم يأت من فراغ، وهو يطرح مسألة مستقبل الأحزاب السياسية عامة والعربية خاصة للنقاش.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة