بعد أن أوقفت الضربات الجوية المتطورة والفعالة جداً التي استهدفت منشآت نفطية سعودية، أكثر من نصف إنتاج المملكة من خام النفط بشكل مؤقت، وأزالت الطاقة الإنتاجية الفائضة للعالم لوقت قصير، اتفق المسؤولون الأميركيون بسرعة على أن إيران هي المذنبة.
وقد يبدو كما لو أن واشنطن الرسمية قد تسرعت في الحكم. فعلى كل حال، المتمردون الحوثيون في اليمن تبنوا المسؤولية عن الهجمات في البداية، والزعماء الإيرانيون نفوا التهمة عنهم، وهناك من ترددوا في تحميل أي جهة مسؤولية الهجمات. والبحث عن أدلة دامغة مستمر، ولكن الهجوم مقتبس مباشرة من التكتيكات والأساليب التي دأبت إيران على استخدامها منذ مايو الماضي، عندما قامت إدارة ترامب بتقليص كل صادرات إيران النفطية. صحيح أن افتعال أزمة يمثل طريقة خطيرة لحل المشاكل، إلا أنه استراتيجية إيرانية قديمة. ذلك أن القادة الإيرانيين لطالما اعتقدوا - لأسباب – أن أفضل دفاع هو الهجوم، ويبدو أنهم تبنوا تلك المقاربة من جديد.
ظاهرياً، توقيت هذا التصعيد الأخير غير متوقع. فمنذ أشهر والرئيس دونالد ترامب يدفع علانية في اتجاه لقاء، وجهاً لوجه، مع نظيره الإيراني الرئيس حسن روحاني، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، المقررة الأسبوع المقبل. كما أن «صقر الصقور» بخصوص ملف إيران في الإدارة الأميركية، جون بولتون، أقيل الأسبوع الماضي من منصبه كمستشار للأمن القومي من قبل ترامب، وسط تقارير تفيد بأن الرئيس كان يدرس إمكانية تخفيف العقوبات على إيران من أجل استئناف المفاوضات.
ومع تزايد التوقعات بشأن اختراق دبلوماسي، فلماذا قد تختار إيران الآن الانخراط في تصعيد دراماتيكي سيكون من السهل الوصول إلى منفذه ويمكن أن يؤدي إلى رد؟
يبدو أن القادة الإيرانيين خلصوا إلى أن ضبط النفس لن يحقق الكثير لإخراج البلاد من مأزقها. وعلى كل حال، فإن ضبط النفس كان ردَّ إيران الأول بعد أن انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في 2018 وبدأ في تكثيف الضغط الاقتصادي. ولكنه لم يحقق سوى البؤس. فقد شكّلت العقوبات الأميركية الأحادية ضربة كارثية، ما قضى على تدفقات الاستثمارات الأجنبية المتوقعة، وخفّض قيمة العملة الإيرانية، وقلّص الاقتصاد. وفي الأثناء، لم تقدّم بقية العالم سوى عبارات الشفقة الفارغة تجاه سياسة «الضغط الأقصى» التي ينتهجها ترامب.
وإزاء حصار مالي لا نهاية له في الأفق، غيّرت إيران مقاربتها قبل أربعة أشهر، حيث انتقلت نحو أسلوب سبق أن خدم مصالحها منذ تأسيس نظامها الحالي قبل 40 عاما، ألا وهو: شن هجوم مضاد. مثل هذه الخطوات مثّلت عنصراً جوهريا من استراتيجية الردع الإيرانية منذ بداية الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980. السياسات الإيرانية تطبق عادة بمساعدة وكلائها من غير الدول، الذين سبق أن نفّذوا هجمات إرهابية مثل قصف مجمع أبراج الخبر السكني في السعودية، الذي قتل فيه 19 عسكرياً أميركياً في إطار محاولة إيرانية واضحة لإخراج القوات الأميركية من الخليج العربي. عقب هذا الهجوم، نُقل الجنود الأميركيون إلى قاعدة أخرى، وفي نهاية المطاف، سُحب معظم الجنود الأميركيين المتبقين من المملكة.
وفي مايو الماضي، خلص قادة إيران مرة أخرى إلى أن التصدي للضغط الأميركي يتطلب عملاً شرساً من شأنه أن يغيّر حسابات الربح والخسارة بالنسبة لواشنطن والعالم. ووجدت إيران أن التعامل مع الولايات المتحدة، عبر استهداف حلفائها ومصالحها، من شأنه خلق نفوذ دبلوماسي يمكن توظيفه في أي مفاوضات مقبلة، وخلق حالة طوارئ بين القوى العالمية، وثني جيرانها عن التعاون مع حملة الضغط التي تقودها واشنطن. وكان الرد الإيراني في البداية – عبارة عن هجمات محدودة على ناقلات نفط صغيرة، وأضرار من السهل إصلاحها لخط أنابيب نفط سعودي وميناء إماراتي، وخروقات يمكن التراجع عنها لالتزاماتها في إطار الاتفاق النووي، وإسقاط طائرة مسيّرة أميركية للمراقبة. هذه التدابير كانت مقلقة بما يكفي لتلفت انتباه العالم ولكنها بدت أيضاً مصمَّمة لتقليل وفيات مدنية أو إثارة رد عسكري أميركي.
تلك الردود الإيرانية بدأ التعامل معها عندما اتجه الدبلوماسيون إلى طهران، واقترح الفرنسيون خطاً ائتمانياً بقيمة 15 مليار دولار. كما بدأ موقف واشنطن المتشدد إزاء إيران يلين، إذ أقنع ترامب رئيس الوزراء الياباني برعاية وساطة (فشلت)، ودعا طهران علانية إلى الاتصال به هاتفياً، والأهم من ذلك أنه ألغى ضربة عسكرية انتقامية.
وهكذا، جلب الصيف الحار لطهران إمكانية الحصول على حبل نجاة اقتصادي، وفي الوقت نفسه اختبار عزيمة إدارة تبدو أكثر زئبقية في تاريخ الولايات المتحدة. فأثبت رد فعل واشنطن ما كان يشتبه فيه الحرس الثوري الإيراني: أن ما يقال عن استعداد ترامب لاستخدام القوة العسكرية ليس سوى مشهد من تلفزيون الواقع موجه لتويتر. فرغم الكلام الحازم والسياسات العقابية، فإن الرئيس الأميركي الذي سبق له أن ازدرى صراحة الحلفاء وكلفة التدخل، لم تكن لديه الجرأة لخوض معركة حقيقية، وخاصة مع انطلاق حملة إعادة انتخابه.
وهكذا، وبينما تنفّست واشنطن والعالم الصعداء، في وقت بدا فيه أن صيفاً من الاستفزازات قد أخذ ينحسر، وفرص دبلوماسية جديدة تنتعش، وجدت طهران نفسها أكثر جرأة وغير راضية في الوقت نفسه.
غير راضية لأن ترامب واصل تشديد الخناق على الاقتصاد الإيراني و– بفضل وفرة الإمدادات النفطية مقارنة مع الطلب العالمي – فشلت هجمات الصيف التدريجية في رفع أسعار النفط لفترة طويلة. وأبدت القيادة الإيرانية التي لا تثق في النظام الدولي استياءها من مذلة الخضوع لوصاية واشنطن، وكذا من إهانة الاستدانة من أوروبا والارتهان لها. وتساءلت: هل يمكن لصدمة أكبر وأكثر جرأة للاقتصاد العالمي أن تخلق حلاً أنسب للحصار الاقتصادي لإيران؟
قد نعرف قريباً الجواب على هذا السؤال. والواقع أن استهداف صادرات جيرانها من الطاقة يتيح أكثر من مجرد الشعور بالرضا الذي يخلقه الانتقام. ومثلما رأينا، فإن اضطراب الإمدادات على هذا النطاق يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ما يحسّن قدرة إيران على التهرب من العقوبات المفروضة من خلال التهريب، كما تستطيع إيران أيضاً أن تقدّم للمشترين خصومات تسهّل الاتجار في صادرات نفط «السوق الرمادية». والمهم بالقدر ذاته أن ارتفاع أسعار النفط يمكن أن يعقّد فرص إعادة انتخاب ترامب، والتي تعتمد بشكل كبير على ادعاء الإدارة الحالية تحسّن أحوال الاقتصاد.
ما يحدث الآن، عقب الهجوم على منشآت أرامكو السعودية، سيوضّح ما إن كانت إيران قد قامت بالرهان الصحيح بخصوص الاستراتيجية الجيوسياسية. فالتصعيد الإيراني يترك واشنطن والعالم أمام مجموعة خطيرة جداً من الخيارات، ذلك أن رداً أميركياً أحادي الجانب يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر كارثية، ولكن عدم التحرك من جانب أميركا يمكن أن يؤدي إلى تأجيج الحرب الباردة السعودية- الإيرانية وتهديدات جديدة لتدفقات الطاقة العالمية. وبعد أن نسف الاتفاق النووي سعياً وراء صفقة أكبر وأحسن مع إيران – التي من الواضح أن قادتها غير مستعدين لقبول الضغط الاقتصادي الأميركي في صمت – طفت قوى الفوضى والحرب التي كان الاتفاق يهدف لاحتوائها.
وقد يبدو كما لو أن واشنطن الرسمية قد تسرعت في الحكم. فعلى كل حال، المتمردون الحوثيون في اليمن تبنوا المسؤولية عن الهجمات في البداية، والزعماء الإيرانيون نفوا التهمة عنهم، وهناك من ترددوا في تحميل أي جهة مسؤولية الهجمات. والبحث عن أدلة دامغة مستمر، ولكن الهجوم مقتبس مباشرة من التكتيكات والأساليب التي دأبت إيران على استخدامها منذ مايو الماضي، عندما قامت إدارة ترامب بتقليص كل صادرات إيران النفطية. صحيح أن افتعال أزمة يمثل طريقة خطيرة لحل المشاكل، إلا أنه استراتيجية إيرانية قديمة. ذلك أن القادة الإيرانيين لطالما اعتقدوا - لأسباب – أن أفضل دفاع هو الهجوم، ويبدو أنهم تبنوا تلك المقاربة من جديد.
ظاهرياً، توقيت هذا التصعيد الأخير غير متوقع. فمنذ أشهر والرئيس دونالد ترامب يدفع علانية في اتجاه لقاء، وجهاً لوجه، مع نظيره الإيراني الرئيس حسن روحاني، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، المقررة الأسبوع المقبل. كما أن «صقر الصقور» بخصوص ملف إيران في الإدارة الأميركية، جون بولتون، أقيل الأسبوع الماضي من منصبه كمستشار للأمن القومي من قبل ترامب، وسط تقارير تفيد بأن الرئيس كان يدرس إمكانية تخفيف العقوبات على إيران من أجل استئناف المفاوضات.
ومع تزايد التوقعات بشأن اختراق دبلوماسي، فلماذا قد تختار إيران الآن الانخراط في تصعيد دراماتيكي سيكون من السهل الوصول إلى منفذه ويمكن أن يؤدي إلى رد؟
يبدو أن القادة الإيرانيين خلصوا إلى أن ضبط النفس لن يحقق الكثير لإخراج البلاد من مأزقها. وعلى كل حال، فإن ضبط النفس كان ردَّ إيران الأول بعد أن انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في 2018 وبدأ في تكثيف الضغط الاقتصادي. ولكنه لم يحقق سوى البؤس. فقد شكّلت العقوبات الأميركية الأحادية ضربة كارثية، ما قضى على تدفقات الاستثمارات الأجنبية المتوقعة، وخفّض قيمة العملة الإيرانية، وقلّص الاقتصاد. وفي الأثناء، لم تقدّم بقية العالم سوى عبارات الشفقة الفارغة تجاه سياسة «الضغط الأقصى» التي ينتهجها ترامب.
وإزاء حصار مالي لا نهاية له في الأفق، غيّرت إيران مقاربتها قبل أربعة أشهر، حيث انتقلت نحو أسلوب سبق أن خدم مصالحها منذ تأسيس نظامها الحالي قبل 40 عاما، ألا وهو: شن هجوم مضاد. مثل هذه الخطوات مثّلت عنصراً جوهريا من استراتيجية الردع الإيرانية منذ بداية الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980. السياسات الإيرانية تطبق عادة بمساعدة وكلائها من غير الدول، الذين سبق أن نفّذوا هجمات إرهابية مثل قصف مجمع أبراج الخبر السكني في السعودية، الذي قتل فيه 19 عسكرياً أميركياً في إطار محاولة إيرانية واضحة لإخراج القوات الأميركية من الخليج العربي. عقب هذا الهجوم، نُقل الجنود الأميركيون إلى قاعدة أخرى، وفي نهاية المطاف، سُحب معظم الجنود الأميركيين المتبقين من المملكة.
وفي مايو الماضي، خلص قادة إيران مرة أخرى إلى أن التصدي للضغط الأميركي يتطلب عملاً شرساً من شأنه أن يغيّر حسابات الربح والخسارة بالنسبة لواشنطن والعالم. ووجدت إيران أن التعامل مع الولايات المتحدة، عبر استهداف حلفائها ومصالحها، من شأنه خلق نفوذ دبلوماسي يمكن توظيفه في أي مفاوضات مقبلة، وخلق حالة طوارئ بين القوى العالمية، وثني جيرانها عن التعاون مع حملة الضغط التي تقودها واشنطن. وكان الرد الإيراني في البداية – عبارة عن هجمات محدودة على ناقلات نفط صغيرة، وأضرار من السهل إصلاحها لخط أنابيب نفط سعودي وميناء إماراتي، وخروقات يمكن التراجع عنها لالتزاماتها في إطار الاتفاق النووي، وإسقاط طائرة مسيّرة أميركية للمراقبة. هذه التدابير كانت مقلقة بما يكفي لتلفت انتباه العالم ولكنها بدت أيضاً مصمَّمة لتقليل وفيات مدنية أو إثارة رد عسكري أميركي.
تلك الردود الإيرانية بدأ التعامل معها عندما اتجه الدبلوماسيون إلى طهران، واقترح الفرنسيون خطاً ائتمانياً بقيمة 15 مليار دولار. كما بدأ موقف واشنطن المتشدد إزاء إيران يلين، إذ أقنع ترامب رئيس الوزراء الياباني برعاية وساطة (فشلت)، ودعا طهران علانية إلى الاتصال به هاتفياً، والأهم من ذلك أنه ألغى ضربة عسكرية انتقامية.
وهكذا، جلب الصيف الحار لطهران إمكانية الحصول على حبل نجاة اقتصادي، وفي الوقت نفسه اختبار عزيمة إدارة تبدو أكثر زئبقية في تاريخ الولايات المتحدة. فأثبت رد فعل واشنطن ما كان يشتبه فيه الحرس الثوري الإيراني: أن ما يقال عن استعداد ترامب لاستخدام القوة العسكرية ليس سوى مشهد من تلفزيون الواقع موجه لتويتر. فرغم الكلام الحازم والسياسات العقابية، فإن الرئيس الأميركي الذي سبق له أن ازدرى صراحة الحلفاء وكلفة التدخل، لم تكن لديه الجرأة لخوض معركة حقيقية، وخاصة مع انطلاق حملة إعادة انتخابه.
وهكذا، وبينما تنفّست واشنطن والعالم الصعداء، في وقت بدا فيه أن صيفاً من الاستفزازات قد أخذ ينحسر، وفرص دبلوماسية جديدة تنتعش، وجدت طهران نفسها أكثر جرأة وغير راضية في الوقت نفسه.
غير راضية لأن ترامب واصل تشديد الخناق على الاقتصاد الإيراني و– بفضل وفرة الإمدادات النفطية مقارنة مع الطلب العالمي – فشلت هجمات الصيف التدريجية في رفع أسعار النفط لفترة طويلة. وأبدت القيادة الإيرانية التي لا تثق في النظام الدولي استياءها من مذلة الخضوع لوصاية واشنطن، وكذا من إهانة الاستدانة من أوروبا والارتهان لها. وتساءلت: هل يمكن لصدمة أكبر وأكثر جرأة للاقتصاد العالمي أن تخلق حلاً أنسب للحصار الاقتصادي لإيران؟
قد نعرف قريباً الجواب على هذا السؤال. والواقع أن استهداف صادرات جيرانها من الطاقة يتيح أكثر من مجرد الشعور بالرضا الذي يخلقه الانتقام. ومثلما رأينا، فإن اضطراب الإمدادات على هذا النطاق يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ما يحسّن قدرة إيران على التهرب من العقوبات المفروضة من خلال التهريب، كما تستطيع إيران أيضاً أن تقدّم للمشترين خصومات تسهّل الاتجار في صادرات نفط «السوق الرمادية». والمهم بالقدر ذاته أن ارتفاع أسعار النفط يمكن أن يعقّد فرص إعادة انتخاب ترامب، والتي تعتمد بشكل كبير على ادعاء الإدارة الحالية تحسّن أحوال الاقتصاد.
ما يحدث الآن، عقب الهجوم على منشآت أرامكو السعودية، سيوضّح ما إن كانت إيران قد قامت بالرهان الصحيح بخصوص الاستراتيجية الجيوسياسية. فالتصعيد الإيراني يترك واشنطن والعالم أمام مجموعة خطيرة جداً من الخيارات، ذلك أن رداً أميركياً أحادي الجانب يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر كارثية، ولكن عدم التحرك من جانب أميركا يمكن أن يؤدي إلى تأجيج الحرب الباردة السعودية- الإيرانية وتهديدات جديدة لتدفقات الطاقة العالمية. وبعد أن نسف الاتفاق النووي سعياً وراء صفقة أكبر وأحسن مع إيران – التي من الواضح أن قادتها غير مستعدين لقبول الضغط الاقتصادي الأميركي في صمت – طفت قوى الفوضى والحرب التي كان الاتفاق يهدف لاحتوائها.
سوزان مالوني
نائبة مدير برنامج السياسة الخارجية في مؤسسة بروكنجز بواشنطن وزميلة «مركز سياسة الشرق الأوسط» في المؤسسة نفسها
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»