ما التاريخ؟ التاريخ رواية، والرواية رؤية يرويها المؤرخ. فهناك جانب ذاتي في التاريخ. ولا أحد يستطيع الادعاء بأن روايته هي ما حدث بالفعل دون نقص ولا زيادة. فالراوي له رؤية، وكل راو آخر من بعده له هو أيضاً رؤيته الخاصة به.. خاصة إذا ما كان قد مر بين الحدث التاريخي وكتابة الرواية حوله عدة قرون. فقد كتبت التوراة في القرن السابع قبل الميلاد في بغداد أثناء الأسر البابلي. كتبها «عزرا» خوفاً من ضياعها إذا بقيت شفاهية. وبين زمن موسى عليه السلام وتدوين التوراة حوالي ستة قرون. وكذلك تقريباً الأناجيل، فهي سيرة المسيح عليه السلام، وقد تم تدوينها بعد أربعين إلى مائة عام مما يسمونه عملية «الصلب».
عندما تطول الفترة الزمنية على الحوادث وهي في الذاكرة، فإنها تتفاعل مع العواطف والانفعالات البشرية، خاصة إذا كانت الحوادث ذات مسحة قدسية. ومن هنا يأتي التضارب في روايات ما يسمى «الأحاديث الضعيفة».
وقد ظهرت في النصف الأول من القرن الميلادي الماضي مدرسة القدس التوراتية، وهي مدرسة تاريخية تسعى لمقارنة روايات الأناجيل بالواقع التاريخي في فلسطين، وعلى الخصوص في مدينة القدس. فإذا حدث تطابق بين النص والواقع كان النص صحيحاً من الناحية التاريخية، على الأقل بالنسبة لعلماء هذه المدرسة، وإن لم يحدث ذلك التطابق في الزمان والمكان المتعلقين بالحدث، كان النص بالنسبة لهم غير صحيح تاريخياً. وهو خطأ علمي، لأن التطابق أو الاختلاف بين الرواية والواقع الذي ترويه ليس دليلا على الصحة التاريخية للنص. فالتاريخ رواية، والرواية رؤية، والرؤية ذاتية بطبعها.
وأدوات العصر قد لا تكفي للتحقق التاريخي من الروايات كوثائق، أو للبحث في الوقائع الجغرافية ومواقع التلال والآبار والأشجار في مكة المكرمة والمدينة المنورة وما بينهما وما حولهما حيث دارت أحداث السيرة النبوية، بل إن إحدى أهم الأدوات المنهجية العصرية تتمثل في التفرقة بين الحامل والمحمول، بين الواقعة والدلالة. فقصص الأنبياء تاريخ دلالات بالأساس. وما الحوادث إلا حوامل لهذه الدلالات، لذلك لا يهم طول عصا موسى، ولا عدد حيات سحرة فرعون.. بل المهم دلالة المعجزة ذاتها، أي أن القوة الإلهية قادرة على تعطيل ما أوجدته من نواميس وعلى إخضاع مخلوقاتها من القوى البشرية وقهرها. والدلالات في حياة المسيح أكثر وأقوى: الميلاد من غير أب، المعجزات الكثيرة، ومنها شفاء المرضى، وإحياء الموتى، والبعث، والصعود إلى السماء.. وهي حوادث تاريخية تختلف عليها الفرق والطوائف المسيحية كحوادث تاريخية وقعت في الزمان والمكان، أما دلالاتها الدينية فيفهمها الجميع، ومنها القدرة الإلهية التي تجلت في تلك المعجزات حتى يؤمن اليهود بآخر أنبياء بني إسرائيل وأكثرهم إقناعاً، حتى بنزول مائدة من السماء. الحامل التاريخي لا يتمثله المتدين، فهو حامل يتغير زمانه ومكانه، لكن دلالته ثابتة وعامة، وهي أساساً ما يتمثله المتدين ويستحضره.
ساد المنهج التاريخي في القرن التاسع عشر، والذي حاول المستشرقون تطبيقه على القرآن الكريم بغية إعادة ترتيبه طبقاً لأوقات النزول، وللتمييز بين السيرة النبوية والحديث الشريف، رغم أن الحديث جزء من السيرة. السيرة حركات الرسول صلى الله عليه وسلم وتنقلاته، والحديث أقواله. فالحديث يخرج من بطن السيرة. وقد وضع القدماء مناهج لضبط علم الحديث سموها «علم مصطلح الحديث»، والذي فرّقوا فيه بين المتن والسند، وركزوا على نقد السند، وقسموه إلى «متواتر» و«آحاد». والتواتر له شروط وإلا فهو آحاد. وشروط التواتر العدد الكافي من الرواة، وتجانس الرواية في الزمان، أي أن يكون الحديث معروفاً بنفس الدرجة عبر الأجيال الأربعة حتى ساعة التدوين، استقلال الرواة عن بعضهم البعض منعاً للتواطؤ على الكذب، وأخيراً الإخبار عن حس وليس عن غيبيات لم يرها أحد.
أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة