الهوية الوطنية اليوم لم تعد حصراً على عرق أو دين معين في بقعة جغرافية محدّدة. ولم تعد أيضاً مرتبطة بإغلاق حدود العقل قبل الحدود الجغرافية لكي لا ينازعنا أحد شرف الانتماء لتلك الأرض. وكيف نصور أنفسنا بأننا فقط مواطنو هذه الأرض، ونحن اليوم في مجتمعات مفتوحة بها تجنيس وهجرة عقول ورأس مال، واستثمار سواء كان معرفياً أو مادياً أو معنوياً، وحرية انتقال البشر بين الدول واختيار الاستقرار فيها، بعد أن يستوفوا الشروط الموضوعة من قبل تلك الدول، والالتزام والتقيّد بالقوانين والنظم، ليصبحوا إضافةً نوعيةً تضاف للمجتمع الذي يعيشون فيه والمجتمع الإنساني ككل.
وهنا يبرز سؤال: في أي بلد في العالم، ما أهمية أن تكون مواطناً غير منتج، بل وتضع العراقيل لتطوّر بلدك وتضرّ بسمعتها، مقابل شخص آخر حصل على جنسية بلدك أو على حق الإقامة الدائمة فيها، وهو شخص له مساهمات لا حصر لها في المجتمع، ويشعر هو وأسرته بأن هذا البلد هو موطنه؟ فهل لمثل هؤلاء الأشخاص مكان ضمن مفهوم الهوية الوطنية الضيق والإقصائي الحالي في معظم دول العالم؟ والحديث هنا يعود بنا مجدداً إلى مفهوم المواطنة وتعريفها الذي يجب أن يقنّن ويكون مادة ضمن كل دستور في العالم، ومفهوم الهوية الوطنية كذلك والأطر التشريعية لهذا المفهوم وما يترتب عليها من فعل وردة فعل وواجبات وحقوق.
فمسألة أن تحدّد الهوية الوطنية استناداً إلى اختيارات خزانة ملابس الشخص أو طريقة كلامه، أو مدى اطّلاعه على الموروث الشعبي وتمسكّه الحرفي بالعادات والتقاليد المحلية، هو تبسيط خطير لمفهوم الهوية، وفكرة أن فئة من الناس من القادمين الجدد - بغض النظر عن البعد الزمني لقدومهم - والذين لا يشاركوننا تاريخنا والتفاصيل الصغيرة لقيمنا وعاداتنا يجب أن لا تتضمنهم هويتنا الوطنية، هو فعل يعكس رفض التسامح والتعايش والإخاء الإنساني، والذي ستكون له نتائج وخيمة على المدى الطويل، وسيحدث شرخاً عميقاً في مدى تكاتف المجتمع.
والمشكلة في هذه السيناريوهات هي أنها تقدّم رؤية رومانسية وعاطفية للأمة الموحدّة، وهو أمر مستبعد في أكثر المجتمعات الإنسانية تماسكاً وتقارباً، وبالمقابل النجاح والازدهار هو من يجعل تلك الفروقات جزءاً مقبولاً في المنظومة الأشمل لمفهوم الدولة الوطنية فيما هو قادم من سنوات في عالمنا العربي الكبير، والتي ليس بالضرورة أن يجمع سكانها لغة مشتركةً ودين مشترك وعادات وتقاليد متوارثة يتقبّلها الجميع بصدر رحب، بل أهداف ومحصلة نهائية مشتركة تعرفها الأغلبية ويكفل القانون الانصياع لها.
فإنشاء دولة تركزّ على القيم الخاصة بتكوين عرقي معين أو دين معين أو تجمعات سكانية وقبلية معينة، وربط التفوق الوطني بها وتدليس التاريخ لجعله هوية قومية هو تجربة نجحت في كل بقاع المعمورة لعقود طويلة، وأعتقد أن الوقت الحاضر هو بداية النهاية لهذه الممارسات وللحاجة الملّحة للتفكير بعقلانية حول تناول أطروحات الهوية الوطنية، وعدم الارتكاز على عكاز الهوية الوطنية الذي يخص ولا يعم في دول متعددة الثقافات، وأجيال تتقاسم عاداتها واهتماماتها مع الناس في جميع أنحاء العالم بدرجة أكبر في الكثير من الأحيان مع الذين يعيشون معهم في نفس المنزل، مما يجعلنا جميعاً مزيجاً من الطبقات والتقاطعات في شبكة من الخيوط التي تربط بين الإنسانية في ثقافة متعددة الأشكال ومتغيرة باستمرار.
فقد تمّ إنشاء الهويات الوطنية بوساطة هياكل السلطات الدينية والثقافية والسياسية الاجتماعية، وهو مفهوم مهدد بالانقراض كاختيار طبيعي للطفرات في جينات السلوكيات المجتمعية، وتقلّص دور الجماعة والجماعية مقابل تعاظم دور الفرد والفردية، وتلاشي دور التاريخ رويداً رويداً في رسم الهويات الوطنية، وأن كان ينشر ويعمم من خلال الروايات المتنافرة في كل ثقافة لنفس الحدث التاريخي والفترة التاريخية، وكيف تراها كل حضارة من منظورها، وكيف سخّر وصمّم حتى العلم والمعرفة لخلق شعور بالانتماء بعيداً عن الجمع بين الناس في الفضاء السياسي المشترك والصالح العام للبشرية. ومن الخطأ تكريس الادعّاء بأن الهوية الوطنية يجب عدم المساس بها وتطويرها حتى لا تتحول إلى معول هدم، وينبغي أن تعزّز الهوية التضامن على نطاق أوسع، كما أن التوقف عن البحث عن حلول وسط وقواعد متفق عليها، وهو أمر محبط وغير مشجع لتكوين الوعي الوطني الجامع للسكان في دولة ما، ومن الخطأ اختزال ملامح الهوية في سمات متقلّبة وتخضع للأهواء الفردية بدلاً من خصائص موضوعية ومعتقدات مشتركة.