كعادته كل سنة، ألقى الرئيس الهنغاري «فيكتور أوربان» مؤخراً محاضرة في الفلسفة السياسية في جامعة بالفانيوس الصيفية، خصصها لشرح وبسط أطروحته الشهيرة حول «الديمقراطية غير الليبرالية» التي بلورها في محاضرة مماثلة عام 2014 (العبارة ترجع إلى الكاتب الأميركي فريد زكريا، وقد استخدمها في التسعينيات في مقالة بمجلة «فورين أفيرز»).
لقد اعتبر أوربان في محاضرته الأخيرة أن المنطق الليبرالي يصدر عن نفس المعين الفلسفي الذي تنبع منه الأيديولوجيا الشيوعية، وهو النزعة التاريخانية التي تعتقد أن للتاريخ معنى واتجاهاً يجب على السياسة أن تتطابق معه، في حين أن السياسة الحقيقية هي إعطاء معنى لحياة الأمم والمجتمعات لا افتراض معنى قبلي للزمن.
ويذهب أوربان إلى أن الديمقراطية غير الليبرالية وإن كانت تقبل مبدأ السوق الحر وتحافظ على المؤسسات القانونية والسياسية للأنظمة الديمقراطية، فإنها تغير جذرياً نمط تشكل المجتمع، من منطلق مفهوم الأمة الثقافية بديلاً عن الأمة السياسية التي هي مجرد رابطة تعايش منظم بين أفراد متمايزين لا شيء يربط بينهم.
المفهوم الثقافي للأمة، حسب أوربان، هو الذي يضمن للمجتمعات تماسكها ويحافظ على هويتها القومية الصلبة، لأنه يتأسس على الاعتبارات التاريخية المتجذرة والذاكرة الجمعية الصلبة، لا مجرد الروابط النفعية المصلحية الظرفية. ومن هنا فإن لهذا المفهوم الثقافي جذوره الدينية والحضارية التي يرجعها أوربان للمسيحية، والتي هي حسب رأيه القاعدة المرجعية والمعيارية لفكرة كرامة الإنسان والمساواة بين البشر التي هي أساس المنظومة الديمقراطية التي لم تظهر -حسب ادعائه- إلا في سياقات مسيحية.
إلا أن الليبرالية بدلاً عن أن تكون مكوناً عضوياً في الديمقراطية، كما يرى الفلاسفة الليبراليون، تقوض مرتكزات الديمقراطية الحقيقية، حسب أوربان، بتخليها عن القيم الحضارية المسيحية التي تتمحور حول قوانين الطبيعة ونظمها الفطرية والهويات الدينية الجماعية من منظور المفهوم الفردي الخصوصي للحرية الذي ينسجم مع مقولة الحياد المعياري والثقافي للدولة، والذي يفصل الأخيرة عن هوية المجتمع العميقة.
والواقع أن مقاربة أوربان ليست معزولة ولا شاذة في الساحة السياسية الغربية التي تشهد في أيامنا هذه جدلاً حاسماً بين دعاة القومية المحافظة والليبراليين التقدميين، حسب عبارة الرئيس الفرنسي ماكرون. والجديد هنا هو أن الديمقراطية من حيث هي نظام سياسي يضمن الانتخابات الحرة كأداة لتنظيم التداول على السلطة، ليست موضوع اعتراض، كما أن الليبرالية كنظام اقتصادي يقوم على حرية التملك ومسلك التنافس الحر ليست مدار نقاش، بل إن الجدل كله يتركز حول القيم الناظمة لنمط الحكامة الاقتصادية والسياسية.
فإذا كانت الليبرالية، من حيث هي مشروع نظري وفكري، قد تبلورت أساساً في سياق حركية التنوير الأوروبي، بقيمها الإنسانية الذاتية ونزوعها العقلاني الكوني، وهي التي أبدعت آليات التنظيم السياسي والمجتمعي الحرة التي يطلق عليها الديمقراطية التعددية، فإن الاتجاهات المحافظة الجديدة تحرص على الفصل بين الجوانب المسطرية الآلية في الفكر الليبرالي والجوانب القيمية التي ترفضها من منطلق فراغها التصوري والمعياري الذي ينسف المفهوم الثقافي العضوي للأمة ككيان سياسي صلب.
ما نعنيه هنا بالفراغ التصوري والمعياري هو الفصل الليبرالي بين مقتضيات المجال العمومي الذي لا يمكن أن يتأسس إلا على نظرية دنيا للعدالة التوزيعية (المدونة الحقوقية الكونية الضامنة للحرية والمساواة ) والمجال الفردي الذاتي الذي هو ميدان التصورات الأخلاقية الجوهرية. وإذا كان هذا الفراغ قد أقر به كل المفكرين الليبراليين من هوبز إلى جون رولز، وانتقده الحداثيون التقدميون من روسو إلى تشارلز تايلور، فإنه هو الثمن الذي لا بد من دفعه في أي منظومة ليبرالية ما دام لا يمكنها فرض تصور جاهز للقيم الجماعية المشتركة، كما هو شأن الأيديولوجيات الراديكالية الإطلاقية.
فعندما يرجع الديمقراطيون غير الليبراليين من أمثال أوربان إلى مبدأ سيادة الشعب، كما تترجمه عملياً الآلية الانتخابية، لتبرير تقييد الحريات العامة، فإنهم ينطلقون من تصور أسطوري للهوية القومية المنسجمة ذات الصوت الواحد. والحال أن المجموعة السياسية هي دوماً مختلفة الاتجاهات والتصورات والمصالح، وأهمية الحلول الديمقراطية أنها تنظم سلمياً هذه التعددية الفعلية، ومن هنا ارتباطها العضوي مع المبدأ الليبرالي الذي هو حرية الإرادة الفردية وحمايتها.
لقد دعا جان جاك روسو إلى التمييز بين الإرادة المشتركة التي تترجم الكل الجماعي الكوني من خلال القوانين المطلقة وإرادة الجميع، التي قد لا تكون سوى التعبير عن نمط من السلطوية الموسعة غير المختلفة عن غيرها من السلطويات الاستبدادية.
وما دام مبدأ الإرادة المشتركة ليس سوى فكرة موجهة ومصادرة ضرورية في النظام الديمقراطي، فإن الأفق الليبرالي لا غنى عنه في إدارة التعددية القائمة في النسيج الاجتماعي وفي تركيبة الأمة.
لقد اعتبر أوربان في محاضرته الأخيرة أن المنطق الليبرالي يصدر عن نفس المعين الفلسفي الذي تنبع منه الأيديولوجيا الشيوعية، وهو النزعة التاريخانية التي تعتقد أن للتاريخ معنى واتجاهاً يجب على السياسة أن تتطابق معه، في حين أن السياسة الحقيقية هي إعطاء معنى لحياة الأمم والمجتمعات لا افتراض معنى قبلي للزمن.
ويذهب أوربان إلى أن الديمقراطية غير الليبرالية وإن كانت تقبل مبدأ السوق الحر وتحافظ على المؤسسات القانونية والسياسية للأنظمة الديمقراطية، فإنها تغير جذرياً نمط تشكل المجتمع، من منطلق مفهوم الأمة الثقافية بديلاً عن الأمة السياسية التي هي مجرد رابطة تعايش منظم بين أفراد متمايزين لا شيء يربط بينهم.
المفهوم الثقافي للأمة، حسب أوربان، هو الذي يضمن للمجتمعات تماسكها ويحافظ على هويتها القومية الصلبة، لأنه يتأسس على الاعتبارات التاريخية المتجذرة والذاكرة الجمعية الصلبة، لا مجرد الروابط النفعية المصلحية الظرفية. ومن هنا فإن لهذا المفهوم الثقافي جذوره الدينية والحضارية التي يرجعها أوربان للمسيحية، والتي هي حسب رأيه القاعدة المرجعية والمعيارية لفكرة كرامة الإنسان والمساواة بين البشر التي هي أساس المنظومة الديمقراطية التي لم تظهر -حسب ادعائه- إلا في سياقات مسيحية.
إلا أن الليبرالية بدلاً عن أن تكون مكوناً عضوياً في الديمقراطية، كما يرى الفلاسفة الليبراليون، تقوض مرتكزات الديمقراطية الحقيقية، حسب أوربان، بتخليها عن القيم الحضارية المسيحية التي تتمحور حول قوانين الطبيعة ونظمها الفطرية والهويات الدينية الجماعية من منظور المفهوم الفردي الخصوصي للحرية الذي ينسجم مع مقولة الحياد المعياري والثقافي للدولة، والذي يفصل الأخيرة عن هوية المجتمع العميقة.
والواقع أن مقاربة أوربان ليست معزولة ولا شاذة في الساحة السياسية الغربية التي تشهد في أيامنا هذه جدلاً حاسماً بين دعاة القومية المحافظة والليبراليين التقدميين، حسب عبارة الرئيس الفرنسي ماكرون. والجديد هنا هو أن الديمقراطية من حيث هي نظام سياسي يضمن الانتخابات الحرة كأداة لتنظيم التداول على السلطة، ليست موضوع اعتراض، كما أن الليبرالية كنظام اقتصادي يقوم على حرية التملك ومسلك التنافس الحر ليست مدار نقاش، بل إن الجدل كله يتركز حول القيم الناظمة لنمط الحكامة الاقتصادية والسياسية.
فإذا كانت الليبرالية، من حيث هي مشروع نظري وفكري، قد تبلورت أساساً في سياق حركية التنوير الأوروبي، بقيمها الإنسانية الذاتية ونزوعها العقلاني الكوني، وهي التي أبدعت آليات التنظيم السياسي والمجتمعي الحرة التي يطلق عليها الديمقراطية التعددية، فإن الاتجاهات المحافظة الجديدة تحرص على الفصل بين الجوانب المسطرية الآلية في الفكر الليبرالي والجوانب القيمية التي ترفضها من منطلق فراغها التصوري والمعياري الذي ينسف المفهوم الثقافي العضوي للأمة ككيان سياسي صلب.
ما نعنيه هنا بالفراغ التصوري والمعياري هو الفصل الليبرالي بين مقتضيات المجال العمومي الذي لا يمكن أن يتأسس إلا على نظرية دنيا للعدالة التوزيعية (المدونة الحقوقية الكونية الضامنة للحرية والمساواة ) والمجال الفردي الذاتي الذي هو ميدان التصورات الأخلاقية الجوهرية. وإذا كان هذا الفراغ قد أقر به كل المفكرين الليبراليين من هوبز إلى جون رولز، وانتقده الحداثيون التقدميون من روسو إلى تشارلز تايلور، فإنه هو الثمن الذي لا بد من دفعه في أي منظومة ليبرالية ما دام لا يمكنها فرض تصور جاهز للقيم الجماعية المشتركة، كما هو شأن الأيديولوجيات الراديكالية الإطلاقية.
فعندما يرجع الديمقراطيون غير الليبراليين من أمثال أوربان إلى مبدأ سيادة الشعب، كما تترجمه عملياً الآلية الانتخابية، لتبرير تقييد الحريات العامة، فإنهم ينطلقون من تصور أسطوري للهوية القومية المنسجمة ذات الصوت الواحد. والحال أن المجموعة السياسية هي دوماً مختلفة الاتجاهات والتصورات والمصالح، وأهمية الحلول الديمقراطية أنها تنظم سلمياً هذه التعددية الفعلية، ومن هنا ارتباطها العضوي مع المبدأ الليبرالي الذي هو حرية الإرادة الفردية وحمايتها.
لقد دعا جان جاك روسو إلى التمييز بين الإرادة المشتركة التي تترجم الكل الجماعي الكوني من خلال القوانين المطلقة وإرادة الجميع، التي قد لا تكون سوى التعبير عن نمط من السلطوية الموسعة غير المختلفة عن غيرها من السلطويات الاستبدادية.
وما دام مبدأ الإرادة المشتركة ليس سوى فكرة موجهة ومصادرة ضرورية في النظام الديمقراطي، فإن الأفق الليبرالي لا غنى عنه في إدارة التعددية القائمة في النسيج الاجتماعي وفي تركيبة الأمة.