عرف العالم العربي والإسلامي كثيراً من مشايخ التنوير البارزين في عصر النهضة أوائل القرن العشرين. لكن الشيخ العالم «طنطاوي جوْهَرِي» كان عميق الفهم وشديد الولع بالعلوم العصرية. ورغم عدم اشتغاله بالسياسة، فإنه ألّف كتابيه المهمين «أين الإنسان» (1910) و«أحلام في السياسة» (1935)، وكان لهما الفضل في ترشيحه للحصول على جائزة «نوبل» عام 1939، وإن توفي عام 1940 دون أن ينالها.
ذلك الجانب من فكر الشيخ طنطاوي جوهري هو ما نبّهنا له الدكتور فتحي صالح أستاذ الهندسة واستشاري العلوم الهندسية والإلكترونية، ليس فقط لأنه مهتم بعالِم يشبهه في الاهتمامات، أي الشيخ طنطاوي جوهري، ولكن أيضاً لأنه حفيده وقد تربى في بيته القديم، فجمع آثاره العلمية والفكرية، مما شجع بعض تلامذة الشيخ جوهري على إصدار الكتاب الذي بين أيدينا حالياً وعنوانه «العقد الجوهري في مناقب الشيخ طنطاوي جوهري» (مؤسسة البناء 2019).
ويكشف ذلك الكتاب عن الثروة التي تركها الشيخ العالم، وشملت 35 كتاباً، منها كتابه عن «نهضة العالم والأمم»، والذي يعرض فيه تصوره لأفضل الصيغ من أجل تنظيم عالمي يضمن السلام ومصالح الأمم.
وقد شكل الشيخ العالِم شبكة علاقات مع علماء أوروبا وآسيا، وناقش قضايا العلوم والفلسفة والفكر الاجتماعي، مما جعل البعض يصنفونه كمفكر اجتماعي ينظّر في الشؤون القومية ويبحث علة المجتمع وأمراضه ويصف أدويته، كما تجلى ذلك في كتابه «نهضة الأمة وحياتها». بينما وضعه البعض الآخر بين كتّاب الروحانيات. لكن كتابه «جواهر العلوم»، وهو تركيبة من العلم والفلسفة والدين، هو الذي رشحه ليكون أول أستاذ للفلسفة في الجامعة الأهلية. غير أن تأملاته حول العلم مقارنة بالدين أدت إلى إبعاده من الجامعة بعد عام واحد فقط من انضمامه إلى سلك التدريس فيها. وإني أشارك الرأي مَن وجدوا في إبعاده من الجامعة صورة أخرى لما حدث مع الشيخ مصطفى عبد الرازق وطه حسين وغيرهما من دعاة تطوير الفكر الديني ودوره في الحياة. فالشيخ جوهري كان يرى أن المسلم الحديث عليه أن يقرأ القرآن الكريم كإنسان عصري، بما توافر له من علم حديث في الرياضيات والزراعة والكيمياء والفيزياء والفلك والطب وعلم الأحياء.. وهذا هو الأساس عنده والذي جعل العرب يتقدمون حتى العصر العباسي. ويعتقد الشيخ جوهري أننا بتوقفنا عند المنهج الديني التقليدي في الموقف من القرآن، بقينا في حالة جمود، بينما تقدم الأوربيون الذين حكَّموا العقل والتفكير الذي أمرنا به القرآن الكريم. ولذلك ترك الشيخ جوهري التعليم الأزهري والأهلي واتجه للالتحاق بمدرسة «دار العلوم»، باعتبارها جامعة لعلوم الدين وبعض العلوم الحديثة الأساسية (مثل الهندسة وغيرها).
ومع احترامه الشديد للعلم الحديث ولعلمائه الغربيين، فقد كان يرد على من يسيء إلى الملة والدين، ومن ذلك رده الشهير على المستشرق «رينان».
ولم يصرفه اشتغاله بالعلم والفلسفة والدين عن إبداء آرائه في قضايا سياسية مهمة خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وإبان ثورة 1919، حيث ساهم في هذا المجال بالدفاع عن مطلب الدستور قائلاً: «لا حياة للأمم إلا بالأحكام الدستورية، وإن ذلك ناموس طبيعي مشابه تماماً لنظام الجسم الإنساني». كما كان مهتماً بتوصيل أفكاره الرئيسة إلى عشرات من قادة العالمين العربي والإسلامي، وكذلك قادة العالم الأوروبي، للمطالبة بإعادة قراءة القرآن الكريم وفق تأمل علمي حديث.
ويسجل للشيخ جوهري انشغاله بحضوره على أساس عالمي، وكونه تجنب الانشغال بمعارضة أو موالاة الحكومات المتعاقبة في بلده مصر، كما لم يبحث عن المكانة فيها لإحراز الشهرة.
وقد رعى الشيخ مجموعات من الشباب في الإسكندرية عندما عين مدرساً هناك، فالتفوا حول قضايا اهتمامه في إطار أنشؤوه باسم «الجامعة الجوهرية» بالإسكندرية. وهناك ناقش معهم معظم القضايا التي اشتغل عليها، مثل فلسفة الفارابي، وقضايا العقل والنقل، والتشريح العصري، وحاسة البصر وتشريح العين، وتغذية النبات، وإثبات حدوث العالم..
وقد لاحظ الذين شاركوا في جمع مقالات جوهري حول تفسير القرآن الكريم، أن شعاره في هذا المجال كان عدم تحميل القرآن مسؤولية عدم قدرتنا على تفسيره وفق الزمان والمكان، وكأنه يقصد موقف النخب الدينية في حينه من العلم الحديث.
كما انشغل الشيخ جوهري بالجدل مع علماء الهند، ودار السلام، ووسط آسيا، وفلاسفة الغرب.. حول المناهج الفلسفية، مثل السوفسطائية، والمهدوية، والداروينية، والإلحاد.
تلك سيرة رجل دخل تاريخ حركة النهضة والتنوير، وعقلنة الثقافة الدينية، بل وعالم الحركة الوطنية فترة ازدهارها. وكان رجلاً لم تشغله المناصب ولا حب الشهرة.