تريد الأحزاب الدِّينية، ومِن بينها «حزب الله» اللبناني، قيادة الدُّول والمجتمعات، في عصر أصبحت فيه اللوائح الفقهية، الملتزمة بها، غير مناسبة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بمعاملة النِّساء. فليس مِن حزب ديني أو جماعة دينية، لا تحاول البقاء على تلك اللوائح المتداولة منذ ألف عام ويزيد. فلا يأخذكم العجب إذا رأيتم تلك الجماعات تنظم تظاهرات النِّساء، لتطبيق حرمانهنّ مِن حضانة أولادهنَّ، أو المطالبة بزواج بناتهنّ الصَّغيرات، بعد تثقيفهن بأن القانون المدني ضد «شرع الله»! هذا ما مارسته القوى الدِّينية العراقية، بعد بث الوهم في عقول النِّساء، على أن حرمان المرأة من الحضانة وزواج ابنتها الصغيرة وغبنها في الإرث أنه «شرع الله»!
فلو توجهت الأحزاب الدِّينية إلى مخالفة مسائل الفقه، أو العمل على تجديده وتطويره، لمصالح النَّاس، سيسقط عنها أهم سبب لوجودها، ألا وهو دعم المؤسسات الفقهية التي لا ترى بالتغيير غير المساومة على مراكزها، وستذهب «نعمة» التقليد الديني، أي أن رجل الدِّين يوجه، والمُقلدون يلبون، ومَن لا يُطيع يُعد محارباً لله ورسوله.
ليس دائماً يكون التقليد سالباً، ففتوى التنباك (1891)، التي أطلقها المرجع محمد حسن الشِّيرازي (ت 1895)، جاءت لصالح العاملين في مجال التنباك، الرائجة زراعته واستعماله بإيران آنذاك، مِن احتكار لشركة بريطانية. تقول الفتوى: «اليوم استعمال التنباك والتتن (التبغ) حرام بأي نحو كان، مَن استعمله كمن حارب الإمام عجل الله فرجه» (الوردي، لمحات اجتماعية مِن تاريخ العراق الحديث). غير أن رمزية محاربة الإمام وبالتالي النَّبي ثم الله، لها خطورتها، فحكمها أكثر مِن الرِّدّة، حين يستخدمها الفقهاء أيضاً للبقاء على المسائل الفقهية، كالتمسك بالمسائل غير الصَّالحة لكلِّ زمان ومكان. إنه الرُّقود الطَّويل، مدى القرون. يقول أحمد صافي النَّجفي (ت 1977) ناقداً مثل هذه الأحوال: «جرسُ النَّهضةِ قد دقَ فلم/ نستيقظ حين دق الجرسُ/ قد رقدنا أملاً في حرسٍ / ولقد نمنا ونام الحرس» (مجلة الرِّسالة 1951)!
اشتهرت قضية غدير نواف الموسوي، النائب عن «حزب الله»، وهو الخاضع فقهياً للمذهب الجعفري، وعليه «حزب الله» كافة، لكنه وجد نفسه بمحنة تجاه ما أصاب ابنته مِن حيف في حضانة أولادها. تحول الموقف إلى احتجاج على المحكمة الجعفرية، وكم مِن مواقف شخصية أسفرت عن مواقف عامة.
فحسب الفقه الجعفري أن حضانة الذَّكر لعامين (الرَّسائل الفقهية)، حسب «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» (البقرة: 233)، لكن لماذا حضانة البنت سبعة أعوام، والآية تخص الجنسين؟! بمعنى أن المصلحة تعطي الحق بتفسير النص وتأويله، حسب ما يراه الفقهاء، فلو كان جامداً لصار الحكم للذكر والأنثى على حدٍ سواء. ومع ذلك فالآية تتعلق بالرِّضاعة لا بالحضانة. وبغض النظر عن تفسير أو تأويل النص، فللزمان حكمه، وأن تؤخذ مصلحة الطِّفل أولاً، ومعلوم أن مصلحته مع الأم حتى يستطيع الاختيار بين الأبوين، وهذا ما أخذه بنظر الاعتبار قانون الأحوال الشخصية العراقي 188 لعام 1959، وقد جاء في المادة (74): «الأُم أَحقُ بحضانة الولد وتربيته، ولا تُسقط حضانتها إذا طُلقت بزواجها».
هذا هو القانون الذي يتمنى نائب «حزب الله» تطبيقه، القانون المدني، لا مثلما يحصل بلبنان أن الطَّوائف هي التي تتحكم شرعياً بأحوال أتباعها. أخذ الموسوي يواجه حزبه المعترض عليه، لأنه في تفكيره هذا أصبح خارج سرب الحزب الذي امتنع عن توقيع قانون ضد العنف الأسري (مقال لديانا مقلد)، بما يتعلق بتفسير «الضَّرب».
لا أظن أن أمثال الموسوي الذين يراعون مصالح بناتهم، سيتوقفون عند «الحضانة»، فمؤكداً سيتبع ذلك تحديد سن الزَّواج، ففي مذهب حزبه الزَّواج مِن تسع أعوام، والعقد ممكن أن يكون حتى على الرَّضيعة، صحيح أن بقية المذاهب كانت على ذلك، لكنها حسبت حساب الزَّمن، ولم تعترض على دولها التي أقرت الزَّواج بالثَّامنة عشر.
ما تقدم مِن ذِكر قانون الأحوال الشّخصية الذي عملت الأحزاب الدِّينية بالعراق على إلغائه، أي العودة إلى الوراء لقرن مِن الزَّمان، قام حزب الفضيلة بتقديم مشروع بديل «قانون الأحوال الشَّخصية الجعفري»، وفيه مثلما الحال بلبنان، حضانة الأم للولد سنتين وللبنت من سنتين إلى سبع سنوات (المادة 242). لكن في لحظة صرخ الموسوي: «إلا ابنتي»! ومعلوم أن ابنته لا تُنصف إلا بإنصاف النِّساء كافة.
كتبت «بادية فحص»، ابنة صاحب العمامة السَّوداء هاني فحص (ت 2014): «ذكّرتني بطفليّ.. جعلتني أحسدها، على رغم مأساتها، لثقتها بأنها حين تستنجد بأبيها، بإمكانه أن يحرك جيشاً لإنقاذها. أحسدها، وأتذكر أبي الذي استضعفته الطَّائفة كلُّها، ووقفت ضده، حتى في عاطفته الأبوية، أبي الذي مات قبل أن يرى حفيديه» (موقع درج). فحسب مقال «بادية»، وراء حرمان الأُمهات من الحضانة أمراض نفسية، وتظل ممارسة الأخذ بالقوة مِن حضن الأُم عقدة تشوه مستقبل الطّفل.
لقد خُلع السَّيد «علي الأمين» مِن وظيفته كقاض للمحكمة الجعفرية بصور (2008) من قبل «المجلس الإسلامي الشِّيعي الأعلى»، لأنه أشار إلى عدم ولاية «حزب الله» على الشَّيعة، فقضية حضانة أطفال الطائفة الشيعية بلبنان أمام الحزب نفسه، وباستطاعته توجيه المجلس لتغيير قانون أو تنحية قاضٍ، بعد أن أخذ الفقه يمس بنات مقاتليه، مع كثرة ادعائه بالمَدَنيّةَ، وأول طلائع المدنية إنصاف النِّساء.
*كاتب عراقي