أكتب هذا المقال من منزلي في واشنطن العاصمة، عشية عيد الاستقلال الموافق الرابع من يوليو، والذي أفسده ذلك الاستعراض المقام على بعد أميال قليلة في منتزه «ناشيونال مول» الوطني. وفي تحدٍ لكل الأعراف، حوّلت الإدارة الأميركية عيد استقلال أمتنا إلى حشد انتخابي يموله دافعو الضرائب. وهي محاولة عارضها حشد من الخصوم اعترضوا على سياسات الرئيس دونالد ترامب، خصوصاً فصل الأُسر وحجز طالبي اللجوء عند حدودنا الجنوبية. وقد أظهرت فاعليات اليوم بقوة حقيقة أن هناك «أميركتين».
فنحن منقسمون انقساماً شديداً أكثر من أي وقت، منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عندما مزقتنا الحرب في فيتنام وحركة الحقوق المدنية بقيادة المواطنين السود. وعلى رغم من أننا تكيّفنا مع كثير من العواصف منذ ذلك الحين، فإن القضايا المؤدية للانقسام لم تنته في الحقيقة. ولا تزال أمور مثل كيفية رؤيتنا للعرقية والتنوع، وكيفية فهمنا لدور أميركا في العالم، تقسمنا إلى جانبين.
وبمرور الوقت، نسي البعض عمق الكراهية التي أصابتنا قبل نصف قرن مضى. فقد تعرض الأميركيون السود الساعون للحصول على حقوقهم المدنية والعدالة الاجتماعية للضرب والإهانات والاعتقالات. وبالمثل، وُصم من عارضوا الحرب في فيتنام بأنهم جبناء أو خونة. وأُهين مارتن لوثر كينج ليس فقط من قبل البيض في الجنوب الأميركي الذين أصابهم الخوف من خسارة امتيازات عرقهم، ولكن أيضاً من قبل السياسيين في الشمال والجنوب، منتقدين إيّاه بأنه قوة مخرّبة. ومع ذلك يُشار إلى «كينج» اليوم من قبل القادة في كلا الحزبين باعتباره رمزاً تاريخياً موقّراً.
ومن الصعب أن نمحو من الذاكرة مشاهد السيارات العسكرية تجوب شوارع شيكاغو، بينما تضرب الشرطة المتظاهرين ضد الحرب عندما اجتمعوا في المدينة للتظاهر ضد تأييد الرئيس ليندون جونسون للحرب في فيتنام.
وتوالت سنوات الانقسام، إلى أن وحدتنا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، لكننا انقسمنا مرة أخرى بشأن الحرب في العراق. وكانت هناك فترة استراحة قصيرة من الانقسام بعد انتخاب باراك أوباما، عندما مال كثيرون إلى اعتقاد أننا تجاوزنا انقسامنا العرقي. وكان مشهد أداء أميركي من أصول أفريقية اليمين، كرئيس للولايات المتحدة، واضحاً شديد الوضوح ويحمل وعداً بمستقبل مختلف لأميركا. لكن لم يمض الأمر على هذا النحو. ففي غضون أشهر من تنصيب أوباما، نشأت حركة «حزب الشاي» وظهر المشككون في أن أوباما ولد في أميركا، وتحدوا ليس فقط سياسات الرئيس الجديد، ولكن أيضاً شرعيته كرئيس أميركي. ومع تنامي مثل هذه الحركات، تعمّق الانقسام، ووصل إلى المستويات الراهنة.
وتُظهر استطلاعات الرأي أن الأميركيين يعيشون في عالمين مختلفين، بشأن سلسلة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وفي حين يصف البعض ذلك بالانقسام الحزبي، فإن الأكثر دقة هو انقسام ديموغرافي في طبيعته. فمن جانب، يوجد الشباب ومجتمعات الأقليات والنساء المتعلمات. وفي الجانب الآخر، مجموعة مؤلفة بشكل كبير من البيض والطبقة المتوسطة ومتوسطي الأعمار والرجال.
والحقيقة هي أن دونالد ترامب لم يصنع الانقسام شديد الوضوح في أميركا اليوم، والأكثر دقة أن نقول إن ترامب هو نتاج ذلك الانقسام.
ومع أن ترامب يحب التفاخر بقوة أميركا، ولا يتردد في تهديد الأعداء بإطلاق قوة جيشنا، فإنه متردد في استخدام الجيش الأميركي في الخارج. وإضافة إلى سياساته المسببة للشقاق، زادت تصريحاته في الخطابات والتغريدات من البغضاء التي باتت تميز خطابنا الوطني.
والاحتفالات الوطنية، مثل عيد الاستقلال، من المفترض أن تكون مناسبات تُوضع فيها الاختلافات جانباً ونتذكر فيها مبادئ التأسيس التي قامت عليها أميركا. ومن المفترض أن تساهم في توحيد المجتمع، لكن لم يحدث شيء من ذلك في عيد الاستقلال الأخير. وأتذكر قراءة دراسة لعالم الأنثروبولوجيا العملاق «كليفورد جيرتز» بعنوان: «التغيير الشعائري والاجتماعي.. النموذج الجاوي»، ويناقش فيها كيف أن الانقسامات الدينية والعرقية والطبقية التي تخللت مدينة جاوة الإندونيسية في خمسينيات القرن الماضي، أثّرت على مراسم الجنائز. فالمقصود من هذه المراسم، مثلما تطورت بمرور الزمن، هو جمع شتات الأسرة والحي حول المتوفى، وتوحيدهم ولو لفترة قصيرة على الأقل. وفي ملاحظته للجنائز في منطقة الدراسة، لاحظ «جيرتز» أن القوى المنبوذة الناجمة عن التغييرات في جاوة كانت قوية لدرجة أنه بدلاً من توحيد المجتمع، كانت الجنائز تفاقم الانقسامات وتعمقها.
وهكذا فعلت الإدارة الأميركية بوجود الدبابات وتحليق الطائرات فوق المنتزه الوطني، وإلقاء خطاب من على أعتاب النصب التذكاري لـ«لينكولن»، مع حجز المقاعد للمسؤولين «الجمهوريين» والمتبرعين للحملة الانتخابية للرئيس ترامب.
وأخشى أننا لن نتمكن قريباً من إيجاد طريقة للمضي قدماً، بعيداً عن الانقسام واستعادة روح الوحدة الوطنية، إذ لن يكون من السهل محو أجيال من الانقسام بسهولة. وليست هناك صيغة سحرية للتغلب على الخوف والكراهية. لكنه تحدي عصرنا، ولابد أن نواجهه، وإلا لن يتحقق حلم مارتين لوثر كينج، الذي تحدث عنه على أعتاب النصب التذاكري لـ«لينكولن» قبل 56 عاماً.
*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن
فنحن منقسمون انقساماً شديداً أكثر من أي وقت، منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عندما مزقتنا الحرب في فيتنام وحركة الحقوق المدنية بقيادة المواطنين السود. وعلى رغم من أننا تكيّفنا مع كثير من العواصف منذ ذلك الحين، فإن القضايا المؤدية للانقسام لم تنته في الحقيقة. ولا تزال أمور مثل كيفية رؤيتنا للعرقية والتنوع، وكيفية فهمنا لدور أميركا في العالم، تقسمنا إلى جانبين.
وبمرور الوقت، نسي البعض عمق الكراهية التي أصابتنا قبل نصف قرن مضى. فقد تعرض الأميركيون السود الساعون للحصول على حقوقهم المدنية والعدالة الاجتماعية للضرب والإهانات والاعتقالات. وبالمثل، وُصم من عارضوا الحرب في فيتنام بأنهم جبناء أو خونة. وأُهين مارتن لوثر كينج ليس فقط من قبل البيض في الجنوب الأميركي الذين أصابهم الخوف من خسارة امتيازات عرقهم، ولكن أيضاً من قبل السياسيين في الشمال والجنوب، منتقدين إيّاه بأنه قوة مخرّبة. ومع ذلك يُشار إلى «كينج» اليوم من قبل القادة في كلا الحزبين باعتباره رمزاً تاريخياً موقّراً.
ومن الصعب أن نمحو من الذاكرة مشاهد السيارات العسكرية تجوب شوارع شيكاغو، بينما تضرب الشرطة المتظاهرين ضد الحرب عندما اجتمعوا في المدينة للتظاهر ضد تأييد الرئيس ليندون جونسون للحرب في فيتنام.
وتوالت سنوات الانقسام، إلى أن وحدتنا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، لكننا انقسمنا مرة أخرى بشأن الحرب في العراق. وكانت هناك فترة استراحة قصيرة من الانقسام بعد انتخاب باراك أوباما، عندما مال كثيرون إلى اعتقاد أننا تجاوزنا انقسامنا العرقي. وكان مشهد أداء أميركي من أصول أفريقية اليمين، كرئيس للولايات المتحدة، واضحاً شديد الوضوح ويحمل وعداً بمستقبل مختلف لأميركا. لكن لم يمض الأمر على هذا النحو. ففي غضون أشهر من تنصيب أوباما، نشأت حركة «حزب الشاي» وظهر المشككون في أن أوباما ولد في أميركا، وتحدوا ليس فقط سياسات الرئيس الجديد، ولكن أيضاً شرعيته كرئيس أميركي. ومع تنامي مثل هذه الحركات، تعمّق الانقسام، ووصل إلى المستويات الراهنة.
وتُظهر استطلاعات الرأي أن الأميركيين يعيشون في عالمين مختلفين، بشأن سلسلة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وفي حين يصف البعض ذلك بالانقسام الحزبي، فإن الأكثر دقة هو انقسام ديموغرافي في طبيعته. فمن جانب، يوجد الشباب ومجتمعات الأقليات والنساء المتعلمات. وفي الجانب الآخر، مجموعة مؤلفة بشكل كبير من البيض والطبقة المتوسطة ومتوسطي الأعمار والرجال.
والحقيقة هي أن دونالد ترامب لم يصنع الانقسام شديد الوضوح في أميركا اليوم، والأكثر دقة أن نقول إن ترامب هو نتاج ذلك الانقسام.
ومع أن ترامب يحب التفاخر بقوة أميركا، ولا يتردد في تهديد الأعداء بإطلاق قوة جيشنا، فإنه متردد في استخدام الجيش الأميركي في الخارج. وإضافة إلى سياساته المسببة للشقاق، زادت تصريحاته في الخطابات والتغريدات من البغضاء التي باتت تميز خطابنا الوطني.
والاحتفالات الوطنية، مثل عيد الاستقلال، من المفترض أن تكون مناسبات تُوضع فيها الاختلافات جانباً ونتذكر فيها مبادئ التأسيس التي قامت عليها أميركا. ومن المفترض أن تساهم في توحيد المجتمع، لكن لم يحدث شيء من ذلك في عيد الاستقلال الأخير. وأتذكر قراءة دراسة لعالم الأنثروبولوجيا العملاق «كليفورد جيرتز» بعنوان: «التغيير الشعائري والاجتماعي.. النموذج الجاوي»، ويناقش فيها كيف أن الانقسامات الدينية والعرقية والطبقية التي تخللت مدينة جاوة الإندونيسية في خمسينيات القرن الماضي، أثّرت على مراسم الجنائز. فالمقصود من هذه المراسم، مثلما تطورت بمرور الزمن، هو جمع شتات الأسرة والحي حول المتوفى، وتوحيدهم ولو لفترة قصيرة على الأقل. وفي ملاحظته للجنائز في منطقة الدراسة، لاحظ «جيرتز» أن القوى المنبوذة الناجمة عن التغييرات في جاوة كانت قوية لدرجة أنه بدلاً من توحيد المجتمع، كانت الجنائز تفاقم الانقسامات وتعمقها.
وهكذا فعلت الإدارة الأميركية بوجود الدبابات وتحليق الطائرات فوق المنتزه الوطني، وإلقاء خطاب من على أعتاب النصب التذكاري لـ«لينكولن»، مع حجز المقاعد للمسؤولين «الجمهوريين» والمتبرعين للحملة الانتخابية للرئيس ترامب.
وأخشى أننا لن نتمكن قريباً من إيجاد طريقة للمضي قدماً، بعيداً عن الانقسام واستعادة روح الوحدة الوطنية، إذ لن يكون من السهل محو أجيال من الانقسام بسهولة. وليست هناك صيغة سحرية للتغلب على الخوف والكراهية. لكنه تحدي عصرنا، ولابد أن نواجهه، وإلا لن يتحقق حلم مارتين لوثر كينج، الذي تحدث عنه على أعتاب النصب التذاكري لـ«لينكولن» قبل 56 عاماً.
*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن