ليس بمقدور أحد أن يقدم نقداً عميقاً للتطرف والتعصب الديني والمذهبي والفكري من غير أن تكون الحياة قد منحته فرصة ثرية للإطلاع على المنتج المعرفي للعرب والمسلمين الأقدمين وما جادت به قرائح الغربيين في الفلسفة والآداب، جامعا بين تراث وتجديد، وبين أصالة ومعاصرة، مدركا ما ينبغي له أن يبقى مما تركه الأولون، وما يجب أن ننظر إليه على أنه مجرد جزء من تاريخ العلم والمعرفة، لكن لم يعد علما ولا معرفة قابلة للتفاعل مع حياتنا الراهنة وإفادتها، كما يؤمن أتباع الجماعات «المتسلفة» والتراثية والمتترسة وراء تصورات بشرية متحجرة تضفي عليها قداسة، مع أنها لم تكن سوى إجابات على أسئلة زمن ولى ولن يعود أبداً.
والحقيقة أن من يمتلكون هذه الإحاطة في ثقافتنا العربية ليسوا كثيرين، فالأغلب إما مشغول بتراثنا لا يبرحه، متوهماً أن فيه ما يكفي، وإما عارف بما أنتجه الغرب، متيم به، بعد أن ولى ظهره لما مضى من تراثنا، لا يرى فيه إلا كل نقص وعوار. واحد من هؤلاء الذين اطلعوا على عطاء الثقافتين هو الناقد الكبير د. صلاح فضل، وهو أمر إنْ كان قد بان للجميع في نحو أربعين كتاباً قد ألفها، وخمسة قد ترجمها عن الإسبانية، ومئات المقالات والدراسات، فإنه أتى على ذكره بوضوح، وكشف ملامحه وجوانبه الخفية في مقاطع من سيرته الفكرية التي أصدرها مؤخراً تحت عنوان «عين النقد».
فهذه السيرة الثرية لا يبين فيها فقط علاقته بقامات كبرى في ثقافتنا العربية مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض وإحسان عبد القدوس، إنما يدلي برأيه في أشياء كثيرة في حياتنا المعاصرة، بدءا من الانشغال بكرة القدم ونهاية بالتسلط السياسي، والفساد الاجتماعي، مرورا بحديث عن النقد ومدارسه، والشعر واتجاهاته، والرواية وأصنافها، والصورة وأبعادها، والجوائز وخلفياتها، وما جرى لجامعاتنا، وحتى شكل العمران وهندسته، من خلال تجربته مع صاحب عمارة الفقراء المهندس العبقري حسن فتحي.
تأخذ هذه السيرة شكلا مختلفا عن كثير من بنات نوعها، ولذا يمكن قراءتها من زوايا عدة، مثل حال الثقافة المصرية في نصف قرن، وتجربة ذاتية في النقد الأدبي، ومآل الرغبة في التميز والتفرد، وتناول هذا يحتاج إلى مقالات عديدة، لكنني اخترت زاوية أخرى، نبدو أكثر احتياجا لها الآن، وهي جدل التعليم المدني والديني، وسبل صناعة عقل متسامح مع الآخر بعد هضم ثقافته، وإدراك أهمية الإيمان بالتنوع البشري الخلاق.
فالدكتور صلاح فضل أُبتعث إلى إسبانيا للدراسة، ثم عاد إليها فيما بعد مستشاراً ثقافيا للسفارة المصرية، فواتته فرصة الإطلاع على الأدب الإسباني في موطنه وفي قارة أميركا اللاتينية برمتها، وكذلك ما يُترجم إلى الإسبانية بانتظام من كتب صدرت بالإنجليزية وفرنسية في نظريات الأدب واتجاهاته، فتلقى كل هذا وهو الأزهري الذي انتقل إلى دار العلوم، وابن الريف الذي جاء إلى المدينة، والشرقي الذي ذهب إلى الغرب، فتفاعلت في رأسه الثقافات النابتة في بيئات اجتماعية وحضارية مختلفة، واختلطت وامتزجت أحيانا، فبدا ذهنه أشبه بمعدة النعام، الذي يلتهم أشياء متنافرة، لكنه يهضمها ويحولها إلى عصارة سلسلة مفيدة.
وما هضمه صلاح فضل على ضخامته، خرج سلساً، ليس على مستوى أسلوبه الفياض الجلي، إنما وبالأساس في الفكرة المركزية التي تُستنبط من كل ما ذكره في كتابه على تنوعه وامتداده في مدى زمني طويل، وهي رفض التعصب، والتصدي لثقافة الكراهية، والحرص على مصاحبة الكبار دون الوقوع في فخ تقديس شخص أو رأي بشري، والنظر إلى الإيجابي في كل الذين نقابلهم، ونتعامل معهم، والسعي وراء الهدف بلا كلل ولا ملل.
إن تجربة صلاح فضل في النقد والحركة الاجتماعية والسياسية والتدريس، ربما تكون محل أخذ ورد واتفاق واختلاف بين كثيرين، لكنها لا تخلو من اتفاقهم جميعا على اعتقاده الجازم الحاسم في الثقافة المدنية، وإيمانه بضرورة إصلاح المؤسسات الدينية من داخلها وخارجها في آن، وأهمية انفتاح العقل العربي على الثقافة الإنسانية بلا سد ولا حد، دون النظر باستعلاء إلى تراثنا الشرقي في شتى صوره وطبقاته الحضارية.
روائي ومفكر مصري
والحقيقة أن من يمتلكون هذه الإحاطة في ثقافتنا العربية ليسوا كثيرين، فالأغلب إما مشغول بتراثنا لا يبرحه، متوهماً أن فيه ما يكفي، وإما عارف بما أنتجه الغرب، متيم به، بعد أن ولى ظهره لما مضى من تراثنا، لا يرى فيه إلا كل نقص وعوار. واحد من هؤلاء الذين اطلعوا على عطاء الثقافتين هو الناقد الكبير د. صلاح فضل، وهو أمر إنْ كان قد بان للجميع في نحو أربعين كتاباً قد ألفها، وخمسة قد ترجمها عن الإسبانية، ومئات المقالات والدراسات، فإنه أتى على ذكره بوضوح، وكشف ملامحه وجوانبه الخفية في مقاطع من سيرته الفكرية التي أصدرها مؤخراً تحت عنوان «عين النقد».
فهذه السيرة الثرية لا يبين فيها فقط علاقته بقامات كبرى في ثقافتنا العربية مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض وإحسان عبد القدوس، إنما يدلي برأيه في أشياء كثيرة في حياتنا المعاصرة، بدءا من الانشغال بكرة القدم ونهاية بالتسلط السياسي، والفساد الاجتماعي، مرورا بحديث عن النقد ومدارسه، والشعر واتجاهاته، والرواية وأصنافها، والصورة وأبعادها، والجوائز وخلفياتها، وما جرى لجامعاتنا، وحتى شكل العمران وهندسته، من خلال تجربته مع صاحب عمارة الفقراء المهندس العبقري حسن فتحي.
تأخذ هذه السيرة شكلا مختلفا عن كثير من بنات نوعها، ولذا يمكن قراءتها من زوايا عدة، مثل حال الثقافة المصرية في نصف قرن، وتجربة ذاتية في النقد الأدبي، ومآل الرغبة في التميز والتفرد، وتناول هذا يحتاج إلى مقالات عديدة، لكنني اخترت زاوية أخرى، نبدو أكثر احتياجا لها الآن، وهي جدل التعليم المدني والديني، وسبل صناعة عقل متسامح مع الآخر بعد هضم ثقافته، وإدراك أهمية الإيمان بالتنوع البشري الخلاق.
فالدكتور صلاح فضل أُبتعث إلى إسبانيا للدراسة، ثم عاد إليها فيما بعد مستشاراً ثقافيا للسفارة المصرية، فواتته فرصة الإطلاع على الأدب الإسباني في موطنه وفي قارة أميركا اللاتينية برمتها، وكذلك ما يُترجم إلى الإسبانية بانتظام من كتب صدرت بالإنجليزية وفرنسية في نظريات الأدب واتجاهاته، فتلقى كل هذا وهو الأزهري الذي انتقل إلى دار العلوم، وابن الريف الذي جاء إلى المدينة، والشرقي الذي ذهب إلى الغرب، فتفاعلت في رأسه الثقافات النابتة في بيئات اجتماعية وحضارية مختلفة، واختلطت وامتزجت أحيانا، فبدا ذهنه أشبه بمعدة النعام، الذي يلتهم أشياء متنافرة، لكنه يهضمها ويحولها إلى عصارة سلسلة مفيدة.
وما هضمه صلاح فضل على ضخامته، خرج سلساً، ليس على مستوى أسلوبه الفياض الجلي، إنما وبالأساس في الفكرة المركزية التي تُستنبط من كل ما ذكره في كتابه على تنوعه وامتداده في مدى زمني طويل، وهي رفض التعصب، والتصدي لثقافة الكراهية، والحرص على مصاحبة الكبار دون الوقوع في فخ تقديس شخص أو رأي بشري، والنظر إلى الإيجابي في كل الذين نقابلهم، ونتعامل معهم، والسعي وراء الهدف بلا كلل ولا ملل.
إن تجربة صلاح فضل في النقد والحركة الاجتماعية والسياسية والتدريس، ربما تكون محل أخذ ورد واتفاق واختلاف بين كثيرين، لكنها لا تخلو من اتفاقهم جميعا على اعتقاده الجازم الحاسم في الثقافة المدنية، وإيمانه بضرورة إصلاح المؤسسات الدينية من داخلها وخارجها في آن، وأهمية انفتاح العقل العربي على الثقافة الإنسانية بلا سد ولا حد، دون النظر باستعلاء إلى تراثنا الشرقي في شتى صوره وطبقاته الحضارية.
روائي ومفكر مصري