عالم ابن عالم، لكنه متفرد عن العلماء، حافظ للقرآن الكريم وليس أول من حفظه، ولكن ما ميزه نظرته وفهمه لنص المشرع، فقد أضحت أصداء اسمه علماً دالاً على الفكر المقاصدي الداعي للتجديد، ذلك أبرز ما وصفت به كتاباته. كما جمع بين العلم والسياسة مجسداً أنموذجاً حضارياً لشخوص السلف الصالح، جامعاً بين العلم والعمل، ولعل أبرز ما يميزه من هذه الناحية علو نجمه في الساحة السياسية، بالتوازي مع استمرار جريان نهر علمه لحد الإبحار، وطفقه للبحث والمتابعة والاستزادة.
أن وجود أمثال العلّامة علال الفاسي (1910-1974)، يعني وجود سواعد نهضوية بانية للحضارات من كافة النواحي، حاملاً كل منهم رسالة الإسلام السمحة، التي لا يمكن أن تتجلى في الأفق الفكري العالمي إلا من خلال الأفعال باعتبارها مرآة الفكر، وهو من أبرز ما ميزه به العلماء فقيل فيه إنه جمع عنصرين قلما يجتمعان في العلماء، ألا وهما المدارسة والممارسة، مما يعني أنه لا يمثل قدوة معرفية فحسب، بل إنه عمليةٌ داعيةٌ ودافعةٌ للنهوض والتقدم على الدوام.
كما تميز مشروع الأستاذ «الفاسي» بأنه مشروع فكري نضالي، وبرز ذلك من خلال سعيه المتواصل لتأصيل القضايا السياسية والاجتماعية، المصاحبة لانتمائه لوطنه وولائه للعرش، وإنبات براعم التحديث الاجتماعي والسياسي والاستفادة من التجارب الناجحة، وبخاصة أن المغرب كان يعاني من أذى «مخلفات الاستعمار» الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها. وفي مقابل ذلك رأى الفاسي بضرورة إبراز وتفعيل العقلية الإسلامية المنفتحة على الآخر والمؤمنة بروح الدين والعقلانية، والتقدمية، سمواً على «الوقوف الصنمي» مغلق الأفق على النص الشرعي. وبالوقت ذاته تميز بتمسكه بالثوابت وتعامله مع المتغيرات، فهو من أبرز المدافعين عن الشريعة، حاملاً للواء مقاصدها ومكارمها، مناهضاً ورافضاً لما تفرزه العقليات المتحجرة، وحلولها المستوردة دون تمحيص.
كما تسهم أفكاره في ترسيخ المسؤولية الجمعية، من خلال توسيع مفهوم العبادة، إذ قال: «إن العبادة في الإسلام لا تعني الانقطاع عن العمل والتجرد عن الدنيا... فهو مسؤول عن كل ما يقع منه مما يتنافى مع رسالته في تعمير الأرض ونشر الحكم الإلهي عليها طبقاً لنواميس الله ومقاصده».
مثير للاهتمام، ذلك التكوين المتناغم لشخص هذا العالم الفذ، ففي الوقت الذي ينادي موضحاً ومفسراً ومثبتاً أوجه السماحة واللين والوئام في الإسلام، يسير بين جهابذة العلماء منارة واثقة وبشدة ومعتدة بالشريعة المبادئ والتراث الإسلامي. فلم يكن يطرح فكرة أو قضية إلا وسقاها من فيض ثقافته الغنية، مستعرضاً بصددها معالجتها والآراء التي دارت حولها على اختلافها، مضيفاً نظرته أيضاً.
إن الموجع بحق، أننا لا ننفك نقف عن التحدث والتلويح بالنماذج البراقة المبهجة في سماء الكون، سواء أكان في المؤتمرات أو المحاضرات أو المجالس العلمية، ولكنها – للأسف – تبقى محاطةً غالباً بهالة «اللاتنفيذ»، أي دون الاستفادة من نورها أو التمعن في سبرها. إذ أن رجلاً كالفاسي عاش ومات وهو في درب السعي والاجتهاد، شغفاً في ري جذور العالم الإسلامي، وباعتباره مجدداً من الطراز الأول، باستحقاقه كل ما يقتضي ذلك من مؤهلات، وطالباً مجتهداً عارفاً في طرح القضايا بألوانها، سياسية أو شرعية أو ثقافية أو حقوقية، ومعلماً وفياً بتأسيسه لتعليم العلوم الشرعية، ونُظُم الأحوال الشخصية التي تُدرّس اليوم في جامعات العالم الإسلامي، لا بد وأن يُقابل بذله بالوفاء، من خلال استثمار ما تركه من إرث.
وقد لا أوفيه حقه بصفتي طالباً في حضرة العلماء، إذ أطلقت عليه لقب «جهبذ الواقع»، إذ مازج التعدد الذي غلب على طابع كتاباته، من علوم التفسير والقرآن، والفقه والأصول والمقاصد والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ القديم والحديث، وحتى الشعر، في ضرورة الواقع واحتياجاته، بدءاً بالمغرب وهذا ما يذكرني بـ «خيركم لأهله»، وصولاً لأفق الأمة العربية والإسلامية، وحريصاً على بلوغه مصافي الرتب إجلالاً لقول الله تعالى:«كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله»، ووفياً ومخلصاً للدين في تطبيق مقاصده، التي توائم بكل وقار لهذا الزمن كما واءمت وأحلت رحمة الإسلام في «عام الرمادة»!
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
أن وجود أمثال العلّامة علال الفاسي (1910-1974)، يعني وجود سواعد نهضوية بانية للحضارات من كافة النواحي، حاملاً كل منهم رسالة الإسلام السمحة، التي لا يمكن أن تتجلى في الأفق الفكري العالمي إلا من خلال الأفعال باعتبارها مرآة الفكر، وهو من أبرز ما ميزه به العلماء فقيل فيه إنه جمع عنصرين قلما يجتمعان في العلماء، ألا وهما المدارسة والممارسة، مما يعني أنه لا يمثل قدوة معرفية فحسب، بل إنه عمليةٌ داعيةٌ ودافعةٌ للنهوض والتقدم على الدوام.
كما تميز مشروع الأستاذ «الفاسي» بأنه مشروع فكري نضالي، وبرز ذلك من خلال سعيه المتواصل لتأصيل القضايا السياسية والاجتماعية، المصاحبة لانتمائه لوطنه وولائه للعرش، وإنبات براعم التحديث الاجتماعي والسياسي والاستفادة من التجارب الناجحة، وبخاصة أن المغرب كان يعاني من أذى «مخلفات الاستعمار» الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها. وفي مقابل ذلك رأى الفاسي بضرورة إبراز وتفعيل العقلية الإسلامية المنفتحة على الآخر والمؤمنة بروح الدين والعقلانية، والتقدمية، سمواً على «الوقوف الصنمي» مغلق الأفق على النص الشرعي. وبالوقت ذاته تميز بتمسكه بالثوابت وتعامله مع المتغيرات، فهو من أبرز المدافعين عن الشريعة، حاملاً للواء مقاصدها ومكارمها، مناهضاً ورافضاً لما تفرزه العقليات المتحجرة، وحلولها المستوردة دون تمحيص.
كما تسهم أفكاره في ترسيخ المسؤولية الجمعية، من خلال توسيع مفهوم العبادة، إذ قال: «إن العبادة في الإسلام لا تعني الانقطاع عن العمل والتجرد عن الدنيا... فهو مسؤول عن كل ما يقع منه مما يتنافى مع رسالته في تعمير الأرض ونشر الحكم الإلهي عليها طبقاً لنواميس الله ومقاصده».
مثير للاهتمام، ذلك التكوين المتناغم لشخص هذا العالم الفذ، ففي الوقت الذي ينادي موضحاً ومفسراً ومثبتاً أوجه السماحة واللين والوئام في الإسلام، يسير بين جهابذة العلماء منارة واثقة وبشدة ومعتدة بالشريعة المبادئ والتراث الإسلامي. فلم يكن يطرح فكرة أو قضية إلا وسقاها من فيض ثقافته الغنية، مستعرضاً بصددها معالجتها والآراء التي دارت حولها على اختلافها، مضيفاً نظرته أيضاً.
إن الموجع بحق، أننا لا ننفك نقف عن التحدث والتلويح بالنماذج البراقة المبهجة في سماء الكون، سواء أكان في المؤتمرات أو المحاضرات أو المجالس العلمية، ولكنها – للأسف – تبقى محاطةً غالباً بهالة «اللاتنفيذ»، أي دون الاستفادة من نورها أو التمعن في سبرها. إذ أن رجلاً كالفاسي عاش ومات وهو في درب السعي والاجتهاد، شغفاً في ري جذور العالم الإسلامي، وباعتباره مجدداً من الطراز الأول، باستحقاقه كل ما يقتضي ذلك من مؤهلات، وطالباً مجتهداً عارفاً في طرح القضايا بألوانها، سياسية أو شرعية أو ثقافية أو حقوقية، ومعلماً وفياً بتأسيسه لتعليم العلوم الشرعية، ونُظُم الأحوال الشخصية التي تُدرّس اليوم في جامعات العالم الإسلامي، لا بد وأن يُقابل بذله بالوفاء، من خلال استثمار ما تركه من إرث.
وقد لا أوفيه حقه بصفتي طالباً في حضرة العلماء، إذ أطلقت عليه لقب «جهبذ الواقع»، إذ مازج التعدد الذي غلب على طابع كتاباته، من علوم التفسير والقرآن، والفقه والأصول والمقاصد والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ القديم والحديث، وحتى الشعر، في ضرورة الواقع واحتياجاته، بدءاً بالمغرب وهذا ما يذكرني بـ «خيركم لأهله»، وصولاً لأفق الأمة العربية والإسلامية، وحريصاً على بلوغه مصافي الرتب إجلالاً لقول الله تعالى:«كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله»، ووفياً ومخلصاً للدين في تطبيق مقاصده، التي توائم بكل وقار لهذا الزمن كما واءمت وأحلت رحمة الإسلام في «عام الرمادة»!
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة