تزامنت حالتا الثوران في الجزائر والسودان على وجه التقريب، في الأسابيع والشهور الأولى للعام 2019. أما في الجزائر فحصل الصدع جرّاء محاولة شقيق رئيس الجمهورية سعيد بوتفليقة إرغام المؤسسات، وبخاصةٍ المجلس الدستوري، على إقرار ترشح الرئيس المريض لعهدة خامسة. لكن التململ بدأ بين الأحزاب السياسية، ثم وصل إلى الشارع وبدأت تظاهرات يوم الجمعة، وهنا تدخّل الجيش ودعا إلى تجاوُز الرئيس، ليعلن المجلس الدستوري عن شغور منصب رئيس الجمهورية. فتم تعيين رئيس مؤقت، وحكومة مؤقتة. ولكي تبدو الخطوة جدية، تم التحفظ على شقيق الرئيس وعشرات السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال، طوراً باسم مكافحة الفساد، وطوراً بتهمة التآمر على الجيش. وقد استمر الحراك لأن المتظاهرين طالبوا بإقالة كل الشخصيات التي كانت جزءاً من النظام، ومنها الرئيس المؤقت ورئيس الحكومة المؤقت، وتأجيل انتخابات الرئاسة إلى آخِر العام. وما وافق الممسكون بمقاليد الأمور على ذلك، وإن اعترفوا أخيراً باستحالة إجراء الانتخابات، لأنه لم يترشح لها أحدٌ معتبر.
رسمياً ليس في الجزائر أزمة دستورية، وينحصر مطلب المتظاهرين باستباق إجراء الانتخابات بتفكيك كل بنى النظام السابق. لكن الجيش يقبل فقط بإزالة «العصابة» التي تحكمت بشؤون البلاد منذ عام 2013. أما المعضلة الأُخرى فهي أن الأحزاب السياسية، والتي تعاملت كلها مع النظام، فلم تعد لها شعبية، كما أنّ الحراك الجماهيري تم ويتم غالباً خارج هذه الأحزاب. مع من يتحاور الجيش لتشكيل المرحلة الانتقالية؟
في السودان الوضع مختلف، حيث بدأ البشير عهده عام 1989 بانقلاب عسكري، أطاح الحكومةَ المنتخبة بقيادة الصادق المهدي. لذلك فإنّ مطلب المتظاهرين، بقيادة تجمع المهنيين (معظمهم من الشيوعيين واليساريين والقوميين والنقابيين غير المسيسين) كان وما يزال تفكيك كل بُنى نظام البشير العسكرية والمدنية (وهؤلاء في معظمهم من «الإخوان المسلمين»، ومَن بقي مع البشير من أتباع الترابي)، وإسناد المرحلة الانتقالية ذات السنوات الثلاث إلى مجلس سيادة (مجلس رئاسة) وحكومة مدنية. واختلف تجمع «قوى الحرية والتغيير» مع المجلس العسكري الانتقالي على كل شيء تقريباً باستثناء تحديد المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات. الثائرون يريدون مجلساً سيادياً يحتل المدنيون نصف أعضائه على الأقل، وحكومة مدنية كاملة، يديران المرحلة الانتقالية، فيما يهتم العسكريون بشؤون الجيش والأمن وحسْب. والعسكريون يريدون السيطرة مع دورٍ للمدنيين خلال المرحلة الانتقالية خوفاً من الفوضى، ولا يرون أنه من حق تجمع المهنيين تولي السلطة بمفرده قبل إجراء الانتخابات.
في الجزائر، ما كان هناك تدخل خارجي علني، وإنما أمَّل الفرنسيون وغيرهم حدوث اتفاق على إجراء الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية. والجزائريون مكفيون، فهم دولة بترولية كبرى، وهم ذوو حساسية شديدة ضد التدخلات الخارجية.
أما في السودان، فسبب إزالة حكم البشير الأزمة الاقتصادية الصاعقة. وعندما اعتقله زملاؤه العسكريون ما وقف معه أحد. وقد قدمت دول الخليج دعماً مالياً سريعاً للسودان لتخفيف أزمته الاقتصادية والمعيشية. وفي جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع بالسودان بدا الروس والصينيون، وبعض الدول العربية، مع المجلس العسكري نسْبياً، فيما يريد الحراكيون إعادة الحكم المدني المعطَّل منذ عام 1989. ولأنّ الجميع يعرفون أن الغربيين مسيطرون في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات المساعدة والإقراض الأُخرى التي يحتاج السودان لدعمها الآن، فقد أدرك المجلس العسكري أنه قد يقع فيما كان نظام البشير واقعاً فيه، لذلك عاد لدعوة «قوى الحرية والتغيير» للتفاوض. ويبدو الصادق المهدي الذي جرى الانقلاب على حكومته عام 1989 هو الأكثر وزناً على الساحة الآن. وقد تضامن منذ البداية مع «قوى الحرية والتغيير»، واستنكر محاولة فض الاعتصام بالقوة، وبقي ممسكاً بالعصا من الوسط.
المهمّ أنّ الجيش في البلدين هو مَنْ قام بالخطوة الأولى، بعد أن شجعه المتظاهرون، وأدرك أن الأمر ما عاد محتملاً، وأنه ليس بوسعه، لا في الجزائر ولا في السودان، أن يصنع ما صنعه بشار الأسد مع قواته في سوريا. إنما الذي يبدو أيضاً أنّ الجيشين لا يريدان الخروج من المشهد تماماً، لأنهم يخشون الفوضى.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت
رسمياً ليس في الجزائر أزمة دستورية، وينحصر مطلب المتظاهرين باستباق إجراء الانتخابات بتفكيك كل بنى النظام السابق. لكن الجيش يقبل فقط بإزالة «العصابة» التي تحكمت بشؤون البلاد منذ عام 2013. أما المعضلة الأُخرى فهي أن الأحزاب السياسية، والتي تعاملت كلها مع النظام، فلم تعد لها شعبية، كما أنّ الحراك الجماهيري تم ويتم غالباً خارج هذه الأحزاب. مع من يتحاور الجيش لتشكيل المرحلة الانتقالية؟
في السودان الوضع مختلف، حيث بدأ البشير عهده عام 1989 بانقلاب عسكري، أطاح الحكومةَ المنتخبة بقيادة الصادق المهدي. لذلك فإنّ مطلب المتظاهرين، بقيادة تجمع المهنيين (معظمهم من الشيوعيين واليساريين والقوميين والنقابيين غير المسيسين) كان وما يزال تفكيك كل بُنى نظام البشير العسكرية والمدنية (وهؤلاء في معظمهم من «الإخوان المسلمين»، ومَن بقي مع البشير من أتباع الترابي)، وإسناد المرحلة الانتقالية ذات السنوات الثلاث إلى مجلس سيادة (مجلس رئاسة) وحكومة مدنية. واختلف تجمع «قوى الحرية والتغيير» مع المجلس العسكري الانتقالي على كل شيء تقريباً باستثناء تحديد المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات. الثائرون يريدون مجلساً سيادياً يحتل المدنيون نصف أعضائه على الأقل، وحكومة مدنية كاملة، يديران المرحلة الانتقالية، فيما يهتم العسكريون بشؤون الجيش والأمن وحسْب. والعسكريون يريدون السيطرة مع دورٍ للمدنيين خلال المرحلة الانتقالية خوفاً من الفوضى، ولا يرون أنه من حق تجمع المهنيين تولي السلطة بمفرده قبل إجراء الانتخابات.
في الجزائر، ما كان هناك تدخل خارجي علني، وإنما أمَّل الفرنسيون وغيرهم حدوث اتفاق على إجراء الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية. والجزائريون مكفيون، فهم دولة بترولية كبرى، وهم ذوو حساسية شديدة ضد التدخلات الخارجية.
أما في السودان، فسبب إزالة حكم البشير الأزمة الاقتصادية الصاعقة. وعندما اعتقله زملاؤه العسكريون ما وقف معه أحد. وقد قدمت دول الخليج دعماً مالياً سريعاً للسودان لتخفيف أزمته الاقتصادية والمعيشية. وفي جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع بالسودان بدا الروس والصينيون، وبعض الدول العربية، مع المجلس العسكري نسْبياً، فيما يريد الحراكيون إعادة الحكم المدني المعطَّل منذ عام 1989. ولأنّ الجميع يعرفون أن الغربيين مسيطرون في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات المساعدة والإقراض الأُخرى التي يحتاج السودان لدعمها الآن، فقد أدرك المجلس العسكري أنه قد يقع فيما كان نظام البشير واقعاً فيه، لذلك عاد لدعوة «قوى الحرية والتغيير» للتفاوض. ويبدو الصادق المهدي الذي جرى الانقلاب على حكومته عام 1989 هو الأكثر وزناً على الساحة الآن. وقد تضامن منذ البداية مع «قوى الحرية والتغيير»، واستنكر محاولة فض الاعتصام بالقوة، وبقي ممسكاً بالعصا من الوسط.
المهمّ أنّ الجيش في البلدين هو مَنْ قام بالخطوة الأولى، بعد أن شجعه المتظاهرون، وأدرك أن الأمر ما عاد محتملاً، وأنه ليس بوسعه، لا في الجزائر ولا في السودان، أن يصنع ما صنعه بشار الأسد مع قواته في سوريا. إنما الذي يبدو أيضاً أنّ الجيشين لا يريدان الخروج من المشهد تماماً، لأنهم يخشون الفوضى.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت