إن توجيه تهمة الكفر والإلحاد سهلةٌ، سهولة شرب الماء لدى القوى الدِّينية، وعلى وجه الخصوص في مجتمع يعاني الحروب والحصار وهيمنة تلك القوى. لا خلاف على منزلة الدِّين لدى العِراقيين، إذا لم يكن مدافاً بالسياسة والحزبية، التي تسعى لتكريس الجهل، ومَن يُخالف يعد كافراً وملحداً، بدس فتوى، قد لا تكون معلنة، ممَن نصب نفسه مرجعاً، أو ولي فقيه حزب. لو تلقي نظرة على موقعه الرَّسمي المزين بصوره، وكأنه يطير بين الغيوم لشدة الغرور، يُفتي بكل شيء، لأن علمه ليس مكتسباً، كيف لا وهو يُقدم نفسه نائبَ الأئمة!
ليس الأمر بجديد في الأجواء الدِّينية السياسية، فلا بد أن تكون التُّهم ضد مدنسين صادرة مِن «مقدسين». هذا ما ابتلى به المؤرخ الطَّبري(ت310ه) مع حنابلة بغداد مِن العوام، والذين قطعوا صلتهم السلوكية مع الإمام أحمد بن حنبل(ت341ه) نفسه، فاتهموا الطبري بالإلحاد، فقال الوزير علي بن عيسى الجراح(ت335ه): «والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرَّفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه»(مسكويه، تجارب الأُمم).
عجت وسائل الإعلام بما (اقترفته) النائبة في البرلمان العراقي هيفاء الأَمين، في ندوة ببيروت، معبرة بلفظة «التَّخلف» عمَّا يعانيه جنوب العراق، كونها نائبة عن تلك المنطقة، وتحاول المساهمة في رفع مستوى مَن تمثلهم.
لكن الصدور الموغلة بالحقد على كلِّ مَن يحاول التَّخفيف مِن الجهل، لم تفهم مِن مفردة «التَّخلف» غير الإهانة. لهذا اجتمع نساء البرلمان المنتميات للأحزاب والقوائم الدينية، لتجريد زميلتهنَّ من رئاسة لجنة المرأة والطّفل في البرلمان، وهنَّ أنفسهنَّ ومثيلاتهنَّ تظاهرنَ لأجل إقرار قانون يجوّز زواج القاصرات(تسع سنوات)، والعذر، أن الشَّرع قرر ذلك قبل ألف عام، بل ويُجوز الخِطبَة للرضيعة. هذا هو التشريع الفقهي المراد تطبيقه رسمياً! فمِن موقعها في البرلمان تسعى الأمين إلى إقرار قانون ضد العنف الأُسري، الذي يتخذ من النصوص الدِّينية الفقهية مسوغاً، وتدفع لأجل قانون يُنصف زميلاتها المعترضات على إحقاق حقوقهنَّ، فهنَّ الصوت النّسوي لكتلهنَّ الدينية.
رُميت قولة «التَّخلف» كتهمة ضد النَّائبة وحزبها، بينما مَن يطلب الدَّليل على وجود التَّخلف كمثل طالب الدَّليل على وجود الشَّمس في رابعة النَّهار، لكن النَّاقمين صعدوا الأمر إلى حضارتي السومريين والبابليين، وكأنهم صدقوا أنهم بسلوكهم هذا يرتقون إلى تلك الحضارتين بلا انقطاع.
بعدها صُعدت القضية إلى الكفر والإلحاد، تلك الفتوى التي أعطاها مرجع زمانه لأحد البزازين(1960)، بعد أن سأله بنية الانتماء إلى الحزب الشّيوعي، ثم عصفت بها الصحف بظل الصِّراعات، وبجرأة على الدماء أُفتي بعدها بقتل أكثر مِن عشرة آلاف(1963)، بطلب مِن السلطة (ورد تفصيل ذلك في الأديان والمذاهب بالعراق). غير أن الذين حرضوا بها على قتل خصومهم أنفسهم تصالحوا مع هذا الحزب، وشيدوا ما عُرف بـ«الجبهة الوطنية»(1973)، وصاروا ينشرون صور ماركس ولينين على صفحات جرائدهم، أي لما تلاقت المصالح لم تعد تلك التُّهمة ذات شأن.
لو سُئل الذين هجموا على مقر حزب الأمين وسط مدينة النَّاصرية، سينطبق عليهم قول الوزير الجراح، لا عرفوا الاشتراكية ولا الماركسية، ولا معنى الإلحاد. إلا أن ما يُلام عليه الحزب الشّيوعي أنه صدق بالدِّيمقراطية، وسط حطام الدولة العراقية. كيف تعترف تلك القوى بمَن يريد الاعتداء على(التَخلف) وهو عِماد شعبيتها؟! لذا على القوى المدنية، حسب منطق القوى الدينية، ألا تطمع بأكثر من جريدة ومقر!
هنا نسأل الحزب الشيوعي العراقي نفسه، أنه لو تسلم السلطة، بوجود ظهير له كالاتحاد السوفيتي، هل سيعطي بقية الأحزاب أكثر من مقر وجريدة، وجريدة طائعة لا معارضة؟ وهكذا تتعامل الأحزاب الدينية بوجود طهران ووليها الفقيه ظهيراً، هذا ما لمح إليه مستشار الولي الفقيه الإيراني علي أكبر ولايتي ببغداد: لن يسمح لغير الإسلاميين بالحكم.
تعتبر الأحزاب الإسلامية الجهل مجداً ومكسباً، مسنودة بالقيم العشائرية المدعومة بالتقليد الدِّيني، والمنبر الدِّيني طغى على المدرسة، فالممارسات الهابطة غدت جزءاً مِن التربية والتَّعليم، لذا لا تمتنع القوى الدينية مِن رمي تهمة الإلحاد على مَن يسعى لاختراق جدار التَخلف بقانون أو ثقافة. يصبح كلُّ مدني في عرفها ملحداً، يجوز قتله، ولو كانت هيفاء الأمين أمام المهاجمين لقتلوها، ثم يبثون الحق بقتلها بالاعتداء على المقدسات، مثلما حصل مع الأديب علاء مشذوب.
إن ما تحت العمائم المسلحة ليست معارفَ لها صلة بحاجات النَّاس، ومَن تولى منصباً، من خارجهم، شأنه شأن أحد وزراء المقتدر بالله(قتل320ه)، في طلب مجاملة العامة: «إذا رأى جمعاً من الملاحين، أو غيرهم من العامة يصلون في مسجد على الشط قَدمَ طياره(زورقه)، وصعد وصلى معهم»(مسكويه، تجارب الأمم).
أعود إلى محنة الطَّبري مع غوغاء زمانه: لما دعي الوزير إلى داره الحنابلة والطَّبري للمناظرة «حضر ولم يحضروا، فعاد إلى منزله» (ابن الجوزي، المنتظم). ألتقطها التَّوحيدي(ت414ه) فقال: «أناظرهم فيك وبسببك، لا مناظرة الحنبليين مع الطبريِّين» (الإمتاع والمؤانسة). أقول: عندما يصبح الجهل مجداً ومكسباً، مِن قِبل متنفذين في السياسة والدِّين، تسقط كل الاعتبارات، ولا أُفق نجاة يلوح.
ليس الأمر بجديد في الأجواء الدِّينية السياسية، فلا بد أن تكون التُّهم ضد مدنسين صادرة مِن «مقدسين». هذا ما ابتلى به المؤرخ الطَّبري(ت310ه) مع حنابلة بغداد مِن العوام، والذين قطعوا صلتهم السلوكية مع الإمام أحمد بن حنبل(ت341ه) نفسه، فاتهموا الطبري بالإلحاد، فقال الوزير علي بن عيسى الجراح(ت335ه): «والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرَّفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه»(مسكويه، تجارب الأُمم).
عجت وسائل الإعلام بما (اقترفته) النائبة في البرلمان العراقي هيفاء الأَمين، في ندوة ببيروت، معبرة بلفظة «التَّخلف» عمَّا يعانيه جنوب العراق، كونها نائبة عن تلك المنطقة، وتحاول المساهمة في رفع مستوى مَن تمثلهم.
لكن الصدور الموغلة بالحقد على كلِّ مَن يحاول التَّخفيف مِن الجهل، لم تفهم مِن مفردة «التَّخلف» غير الإهانة. لهذا اجتمع نساء البرلمان المنتميات للأحزاب والقوائم الدينية، لتجريد زميلتهنَّ من رئاسة لجنة المرأة والطّفل في البرلمان، وهنَّ أنفسهنَّ ومثيلاتهنَّ تظاهرنَ لأجل إقرار قانون يجوّز زواج القاصرات(تسع سنوات)، والعذر، أن الشَّرع قرر ذلك قبل ألف عام، بل ويُجوز الخِطبَة للرضيعة. هذا هو التشريع الفقهي المراد تطبيقه رسمياً! فمِن موقعها في البرلمان تسعى الأمين إلى إقرار قانون ضد العنف الأُسري، الذي يتخذ من النصوص الدِّينية الفقهية مسوغاً، وتدفع لأجل قانون يُنصف زميلاتها المعترضات على إحقاق حقوقهنَّ، فهنَّ الصوت النّسوي لكتلهنَّ الدينية.
رُميت قولة «التَّخلف» كتهمة ضد النَّائبة وحزبها، بينما مَن يطلب الدَّليل على وجود التَّخلف كمثل طالب الدَّليل على وجود الشَّمس في رابعة النَّهار، لكن النَّاقمين صعدوا الأمر إلى حضارتي السومريين والبابليين، وكأنهم صدقوا أنهم بسلوكهم هذا يرتقون إلى تلك الحضارتين بلا انقطاع.
بعدها صُعدت القضية إلى الكفر والإلحاد، تلك الفتوى التي أعطاها مرجع زمانه لأحد البزازين(1960)، بعد أن سأله بنية الانتماء إلى الحزب الشّيوعي، ثم عصفت بها الصحف بظل الصِّراعات، وبجرأة على الدماء أُفتي بعدها بقتل أكثر مِن عشرة آلاف(1963)، بطلب مِن السلطة (ورد تفصيل ذلك في الأديان والمذاهب بالعراق). غير أن الذين حرضوا بها على قتل خصومهم أنفسهم تصالحوا مع هذا الحزب، وشيدوا ما عُرف بـ«الجبهة الوطنية»(1973)، وصاروا ينشرون صور ماركس ولينين على صفحات جرائدهم، أي لما تلاقت المصالح لم تعد تلك التُّهمة ذات شأن.
لو سُئل الذين هجموا على مقر حزب الأمين وسط مدينة النَّاصرية، سينطبق عليهم قول الوزير الجراح، لا عرفوا الاشتراكية ولا الماركسية، ولا معنى الإلحاد. إلا أن ما يُلام عليه الحزب الشّيوعي أنه صدق بالدِّيمقراطية، وسط حطام الدولة العراقية. كيف تعترف تلك القوى بمَن يريد الاعتداء على(التَخلف) وهو عِماد شعبيتها؟! لذا على القوى المدنية، حسب منطق القوى الدينية، ألا تطمع بأكثر من جريدة ومقر!
هنا نسأل الحزب الشيوعي العراقي نفسه، أنه لو تسلم السلطة، بوجود ظهير له كالاتحاد السوفيتي، هل سيعطي بقية الأحزاب أكثر من مقر وجريدة، وجريدة طائعة لا معارضة؟ وهكذا تتعامل الأحزاب الدينية بوجود طهران ووليها الفقيه ظهيراً، هذا ما لمح إليه مستشار الولي الفقيه الإيراني علي أكبر ولايتي ببغداد: لن يسمح لغير الإسلاميين بالحكم.
تعتبر الأحزاب الإسلامية الجهل مجداً ومكسباً، مسنودة بالقيم العشائرية المدعومة بالتقليد الدِّيني، والمنبر الدِّيني طغى على المدرسة، فالممارسات الهابطة غدت جزءاً مِن التربية والتَّعليم، لذا لا تمتنع القوى الدينية مِن رمي تهمة الإلحاد على مَن يسعى لاختراق جدار التَخلف بقانون أو ثقافة. يصبح كلُّ مدني في عرفها ملحداً، يجوز قتله، ولو كانت هيفاء الأمين أمام المهاجمين لقتلوها، ثم يبثون الحق بقتلها بالاعتداء على المقدسات، مثلما حصل مع الأديب علاء مشذوب.
إن ما تحت العمائم المسلحة ليست معارفَ لها صلة بحاجات النَّاس، ومَن تولى منصباً، من خارجهم، شأنه شأن أحد وزراء المقتدر بالله(قتل320ه)، في طلب مجاملة العامة: «إذا رأى جمعاً من الملاحين، أو غيرهم من العامة يصلون في مسجد على الشط قَدمَ طياره(زورقه)، وصعد وصلى معهم»(مسكويه، تجارب الأمم).
أعود إلى محنة الطَّبري مع غوغاء زمانه: لما دعي الوزير إلى داره الحنابلة والطَّبري للمناظرة «حضر ولم يحضروا، فعاد إلى منزله» (ابن الجوزي، المنتظم). ألتقطها التَّوحيدي(ت414ه) فقال: «أناظرهم فيك وبسببك، لا مناظرة الحنبليين مع الطبريِّين» (الإمتاع والمؤانسة). أقول: عندما يصبح الجهل مجداً ومكسباً، مِن قِبل متنفذين في السياسة والدِّين، تسقط كل الاعتبارات، ولا أُفق نجاة يلوح.