أثار اعتذار الشيخ عايض القرني عن تجربته المتشددة في أيام صعود حركة «الصحوة» جدلا واسعاً في الأيام الأولى من شهر الصيام المبارك، ولا شك أن الاعتذار كان خطوة شجاعة جريئة للتبرؤ من انحراف خطير في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم.
تيار الصحوة هو نتاج التقاء الفكر الإخواني القطبي (عن طريق محمد قطب الذي كان مقيماً لفترة طويلة في السعودية) والسلفية التكفيرية المتشددة. وما يجمع بين هذين الرافدين هو النزعة العدائية للحداثة والتنوير من جهة، والرفض الجذري للرصيد العقلاني الإنساني في التراث الإسلامي كما تحمله علوم ثلاثة أساسية هي الفلسفة وعلم الكلام والتصوف.
أما الجانب الأول المتعلق بالحداثة والتنوير فقد خصصت له قبل سنوات مقالات موسعة (أعيد نشرها في كتابي الدين والهوية)، ولذا سأخصص بعض الفقرات للموضوع الثاني المتعلق بالتراث العقلاني في الإسلام الوسيط.
ومن له أدنى اطلاع على أدبيات الصحوة يعرف أن المنطق الأساسي الذي تصدر عنه هذه الأدبيات هو نظرية «التصور الإسلامي وخصائصه» التي بلورها سيد قطب وحاول أخوه محمد قطب تطبيقها في مجال الإنسانيات، قبل أن يطورها عبد الوهاب المسيري في مفهومه للتحيز. الفكرة المحورية هنا هي أن للإسلام رؤيته الخاصة للعالم والتي تميزه عن مختلف الفلسفات والمنظومات الفكرية والمعتقدات، ومن ثم يتم رفض جانب وافر من الفكر الإسلامي الوسيط بذريعة تأثره بالروافد اليونانية والرومانية والفارسية، كما يتم رفض الفكر الحداثي والتنويري بالحجة نفسها.
ومن هنا ندرك النظرة السلبية الثابتة لدى «الإخوان» للفلسفة بما فيها الفلسفة الإسلامية الوسيطة ونعتها بأنها غزو يوناني لا يتلاءم والعقيدة الدينية الصحيحة، والعداء لعلم الكلام واعتباره لغواً فكرياً خطيراً على العقيدة السليمة، وكذا للتصوف فكراً وممارسة وتكفير أهله وإخراجهم من الملة.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن هذه العلوم الثلاثة من علوم الإسلام الأصيلة، وهي شديدة التداخل وكثيفة الحضور في كل جوانب التقليد الإسلامي بما فيها علوم التفسير والأصول والفقه ولا يمكن التهوين من شأنها أو رفضها.
وقبل أن نتعرض لعلم الكلام والتصوف، نقف باقتضاب عند الموقف السلبي من الفلسفة الذي هو من ثوابت فكر «الإخوان»، ونجده بقوة ووضوح لدى رموز تيار الصحوة. ولا بد من التبيين هنا أنه ليس من الصحيح ما يقوله دعاة الصحوة من أن الفلسفة الإسلامية كانت مجرد ترجمة عربية للنصوص اليونانية أو شروحاً وتعليقات عليها (وتلك هي الأطروحة الاستشراقية القديمة المتهافتة)، بل إنها تشكلت وتطورت في سياق الإشكالات العقدية والتأويلية التي طرحت في الفكر الإسلامي الوسيط. وهكذا تم الرجوع إلى المدونة الفلسفية اليونانية في مكوناتها الطبيعية والوجودية والأخلاقية، لصياغة حلول وإجابات حول إشكاليات إسلامية داخلية باعتماد لغة عقلانية كونية دون التخلي عن معتقدات الدين التوحيدي وأحكامه. وحتى الغزالي وابن تيمية اللذان عرفا بأشرس النقد للفلاسفة لم يخالفاهم في التوجه والاصطلاحات، أي في طبيعة المنهج العقلاني البرهاني، بل اعتبرا أن أغلب آراء فلاسفة اليونان من المقبول المستساغ مع الاعتراض على بعض الجوانب المحدودة في الإلهيات التي كانت هي الجانب الأفقر في الفلسفة اليونانية. والمعروف أن أكبر فلاسفة الإسلام، أي ابن سينا، قد حوّر جذرياً الاتجاه الميتافيزيقي في الفلسفة اليونانية بتحويله من إشكالية الوجود في تعددية معانيه (المقاربة الأرسطية) إلى إشكالية الوجود والماهية التي أدخلت لأول مرة في تاريخ الفلسفة مفهوم التعالي، بما كان له أثر حاسم في تاريخ الفلسفة، وكان منطلقه عقدي إسلامي، في تأثر واضح بالأدبيات الكلامية.
أما المنطق الذي هو الخلاصة النظرية للفلسفة اليونانية، فقد أصبح منذ القرن الخامس الهجري من مرتكزات العلوم الإسلامية، وبصفة خاصة أصول الفقه، إلى حد أن الإمام الغزالي الذي كتب «تهافت الفلاسفة» اعتبر أن من لم يتمنطق لا يوثق بعلمه، وهو نفس موقف ابن حزم الظاهري.
الأمر نفسه يصدق على الفكر الأخلاقي الإسلامي الوسيط الذي اعتمد إلى حد بعيد نظرية الفضيلة الأرسطية واعتبرها الصياغة العقلانية لمبدأ الاعتدال والتوسط في الشريعة، كما اعتمد جانباً كبيراً من نظرية النفس الأفلاطونية وتحولاتها في الافلوطوينية. وما يظهر من كتابات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي ومسكويه.. أن هذه المفاهيم والنظريات الفلسفية أصبحت منذ القرن الرابع الهجري من المشتركات المتداولة في الفكر الإسلامي دون أن تثير أي اعتراض، إلى حد أن فقيهاً موريتانياً من مدينة «ولاتة» في القرن الثامن عشر استشهد في الرد على شيخه في مسألة خلافية بمقولة أرسطو الشهيرة في نقد أستاذه أفلاطون: «إني أحب أفلاطون، لكني أحب الحقيقة أكثر».
تيار الصحوة هو نتاج التقاء الفكر الإخواني القطبي (عن طريق محمد قطب الذي كان مقيماً لفترة طويلة في السعودية) والسلفية التكفيرية المتشددة. وما يجمع بين هذين الرافدين هو النزعة العدائية للحداثة والتنوير من جهة، والرفض الجذري للرصيد العقلاني الإنساني في التراث الإسلامي كما تحمله علوم ثلاثة أساسية هي الفلسفة وعلم الكلام والتصوف.
أما الجانب الأول المتعلق بالحداثة والتنوير فقد خصصت له قبل سنوات مقالات موسعة (أعيد نشرها في كتابي الدين والهوية)، ولذا سأخصص بعض الفقرات للموضوع الثاني المتعلق بالتراث العقلاني في الإسلام الوسيط.
ومن له أدنى اطلاع على أدبيات الصحوة يعرف أن المنطق الأساسي الذي تصدر عنه هذه الأدبيات هو نظرية «التصور الإسلامي وخصائصه» التي بلورها سيد قطب وحاول أخوه محمد قطب تطبيقها في مجال الإنسانيات، قبل أن يطورها عبد الوهاب المسيري في مفهومه للتحيز. الفكرة المحورية هنا هي أن للإسلام رؤيته الخاصة للعالم والتي تميزه عن مختلف الفلسفات والمنظومات الفكرية والمعتقدات، ومن ثم يتم رفض جانب وافر من الفكر الإسلامي الوسيط بذريعة تأثره بالروافد اليونانية والرومانية والفارسية، كما يتم رفض الفكر الحداثي والتنويري بالحجة نفسها.
ومن هنا ندرك النظرة السلبية الثابتة لدى «الإخوان» للفلسفة بما فيها الفلسفة الإسلامية الوسيطة ونعتها بأنها غزو يوناني لا يتلاءم والعقيدة الدينية الصحيحة، والعداء لعلم الكلام واعتباره لغواً فكرياً خطيراً على العقيدة السليمة، وكذا للتصوف فكراً وممارسة وتكفير أهله وإخراجهم من الملة.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن هذه العلوم الثلاثة من علوم الإسلام الأصيلة، وهي شديدة التداخل وكثيفة الحضور في كل جوانب التقليد الإسلامي بما فيها علوم التفسير والأصول والفقه ولا يمكن التهوين من شأنها أو رفضها.
وقبل أن نتعرض لعلم الكلام والتصوف، نقف باقتضاب عند الموقف السلبي من الفلسفة الذي هو من ثوابت فكر «الإخوان»، ونجده بقوة ووضوح لدى رموز تيار الصحوة. ولا بد من التبيين هنا أنه ليس من الصحيح ما يقوله دعاة الصحوة من أن الفلسفة الإسلامية كانت مجرد ترجمة عربية للنصوص اليونانية أو شروحاً وتعليقات عليها (وتلك هي الأطروحة الاستشراقية القديمة المتهافتة)، بل إنها تشكلت وتطورت في سياق الإشكالات العقدية والتأويلية التي طرحت في الفكر الإسلامي الوسيط. وهكذا تم الرجوع إلى المدونة الفلسفية اليونانية في مكوناتها الطبيعية والوجودية والأخلاقية، لصياغة حلول وإجابات حول إشكاليات إسلامية داخلية باعتماد لغة عقلانية كونية دون التخلي عن معتقدات الدين التوحيدي وأحكامه. وحتى الغزالي وابن تيمية اللذان عرفا بأشرس النقد للفلاسفة لم يخالفاهم في التوجه والاصطلاحات، أي في طبيعة المنهج العقلاني البرهاني، بل اعتبرا أن أغلب آراء فلاسفة اليونان من المقبول المستساغ مع الاعتراض على بعض الجوانب المحدودة في الإلهيات التي كانت هي الجانب الأفقر في الفلسفة اليونانية. والمعروف أن أكبر فلاسفة الإسلام، أي ابن سينا، قد حوّر جذرياً الاتجاه الميتافيزيقي في الفلسفة اليونانية بتحويله من إشكالية الوجود في تعددية معانيه (المقاربة الأرسطية) إلى إشكالية الوجود والماهية التي أدخلت لأول مرة في تاريخ الفلسفة مفهوم التعالي، بما كان له أثر حاسم في تاريخ الفلسفة، وكان منطلقه عقدي إسلامي، في تأثر واضح بالأدبيات الكلامية.
أما المنطق الذي هو الخلاصة النظرية للفلسفة اليونانية، فقد أصبح منذ القرن الخامس الهجري من مرتكزات العلوم الإسلامية، وبصفة خاصة أصول الفقه، إلى حد أن الإمام الغزالي الذي كتب «تهافت الفلاسفة» اعتبر أن من لم يتمنطق لا يوثق بعلمه، وهو نفس موقف ابن حزم الظاهري.
الأمر نفسه يصدق على الفكر الأخلاقي الإسلامي الوسيط الذي اعتمد إلى حد بعيد نظرية الفضيلة الأرسطية واعتبرها الصياغة العقلانية لمبدأ الاعتدال والتوسط في الشريعة، كما اعتمد جانباً كبيراً من نظرية النفس الأفلاطونية وتحولاتها في الافلوطوينية. وما يظهر من كتابات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي ومسكويه.. أن هذه المفاهيم والنظريات الفلسفية أصبحت منذ القرن الرابع الهجري من المشتركات المتداولة في الفكر الإسلامي دون أن تثير أي اعتراض، إلى حد أن فقيهاً موريتانياً من مدينة «ولاتة» في القرن الثامن عشر استشهد في الرد على شيخه في مسألة خلافية بمقولة أرسطو الشهيرة في نقد أستاذه أفلاطون: «إني أحب أفلاطون، لكني أحب الحقيقة أكثر».