يقوم جانب كبير من النظرية الاقتصادية الحديثة على فكرة بسيطة مفادها أن البشر يسعون لتعظيم منفعتهم. لكن ما المنفعة؟ يعتقد كثيرون من الناس أنها السعادة أو المتعة. وكان الفيلسوف البريطاني جيرمي بنتام، صاحب النظرية النفعية، يراها بهذه الطريقة. لكن هذه ليست طريقة الاقتصاديين المحدثين. فإذا كان هناك اقتصادي يراقب أشخاصاً يعملون بجد ويقدمون تضحيات لشراء منازل، فإنه يستنتج أن المنازل يتعين أن يكون بها الكثير من النفع لهؤلاء الناس.
ويميل الاقتصاديون المحدثون إلى افتراض أن المنفعة خير وأن الناس يجب أن يحصلوا على ما يريدون. وحين يتحدث الاقتصاديون عن فكرة فائض المستهلك فإنهم يقصدون المنفعة التي يحصل عليها المستهلكون من صفقة جيدة على سلع استهلاكية. وعلم اقتصاد الرفاهية الذي يعالج السؤال الخاص بكيف يفيد الاقتصاد البشرية، غالبا ما ينظر إلى الرفاهية الاجتماعية باعتبارها طريقة لقياس لمدى إشباع الناس رغباتهم.
وهناك بالتأكيد أسباب لانتقاد هذه المقاربة الفلسفية. ففي المقام الأول، يتخذ الأفراد خيارات يندمون عليها فيما بعد. فالمدخنون يعلمون أنه يجب الإقلاع عن التدخين الآن لكنهم يؤجلون ذلك وبعد ذلك بسنوات ينتهي بهم الحال إلى تمنى لو أنهم كانوا أكثر صرامة مع أنفسهم. فهل يجب على المجتمع أن يهتم بأنفس الناس الحالية أو بأنفسهم في المستقبل؟
لكن هناك أسباب أعمق على السؤال بشأن إذا ما كان المجتمع يجب أن يشبع فحسب الرغبات الإنسانية طوال الوقت. تتصور نفعية «جيرمي بنتام» أن المجتمع الصالح هو ما يجعل أفراده سعداء. لكن ماذا لو لم تجلب الأشياء التي يرغب فيها الناس السعادة عليهم؟ ولا يوجد اتفاق واضح في الآراء بشأن كيفية قياس السعادة. فقد حاول بعض علماء الأعصاب ربطها بعدة معايير لنشاط المخ. لكن الاقتصاديين يميلون إلى استخدام وسيلة أرخص وأسرع بكثير. إنهم يرسلون عمليات مسح واستبيانات تسأل الناس عن مقدار ما يشعرون به من السعادة. وأدت الأبحاث عن السعادة إلى بعض النتائج المدهشة والمثيرة للقلق. فالناس يجرون وراء أشياء قليلة تجعلهم غير سعداء.
وأحد هذه الأشياء «فيسبوك»، أكبر شبكة تواصل اجتماعي في العالم. ففي ورقة بحثية، صدرت في الآونة الأخيرة، حقق الاقتصاديون «هانت الكوت» و«لوكا براغيري» و«سارة ايشماير» و«ماتيو جينتزكو» في مقدار المال الذي يتعين عليهم دفعه لمستخدمي «فيسبوك» كي يجعلوهم يوقفون تفعيل حسابهم على «فيسبوك» لشهر أو شهرين. ووجدوا أن المبلغ الوسيط هو 100 دولار وأن المتوسط الإجمالي يبلغ 180 دولاراً. وهذا يوحي أن «فيسبوك»- المجاني الاستخدام- يدر قدراً هائلاً من المنفعة أي أكثر من 370 مليار دولار في العام في صورة فائض المستهلك في الولايات المتحدة وحدها. وهذا يدعم حجة من يعتقدون أن الخدمات الرقمية المجانية أضافت كثيرا إلى ناتج لم يجر قياسه إلى الاقتصاد العالمي.
لكن «الكوت» والآخرين وجدوا أن الناس الذين أوقفوا حساباتهم على «فيسبوك» كجزء من التجربة أصبحوا أكثر سعادة في ما بعد وتحدثوا عن مستويات أعلى من الرضا الحياتي ومستويات أقل من الاكتئاب والقلق. فلماذا يرغب الناس في دفع الكثير من المال مقابل شيء يقلص سعادتهم؟ أحد الاحتمالات يتمثل في أن مواقع التواصل الاجتماعي تعمل كعقار مسبب للإدمان والواقع أن الناس الذين دفع لهم «الكوت» وآخرون المال ليوقفوا نشاط حسابهم على «فيسبوك» انتهى بهم الحال إلى استخدام «فيسبوك» أقل بعد انتهاء التجربة. لكن هناك احتمال آخر وهو أن الناس يستخدمون خدمات مثل «فيسبوك» لأنهم مدفوعون بالتحفيز وليس بالسعي وراء السعادة.
وهناك مثال آخر على الانفصال بين السعادة والمنفعة ويتعلق بالوقت المستغرق في الانتقال من المنزل إلى العمل. فلطالما توصل اقتصاديون وباحثون آخرون في مجال السعادة إلى أن مدة السفر أو الانتقال الطويلة ترتبط بعدم السعادة. لكن الناس مازالوا يدفعون الكثير من المال ليعيشوا في ضواحي نائية. وتوصل الاقتصادي «روبرت فرانك» أن المنازل الأوسع المتوافرة في الضواحي النائية لا تأتي بسعادة تعوض فترات الانتقال الطويلة وما ينجم عنها من عدم سعادة. توصلت ورقة بحثية للاقتصاديين «دانييل بنيامين» و«أوروي هيفتز»«ومايلز كيمبال» و«أليكس ريس جونز» إلى أن الناس يتوقعون أن تدعم الأشياء التي يدفعون مالا مقابلها سعادتهم لكن هذا لا يحدث دائماً.
وأخيرا، ما يجب على المجتمع فعله لمعالجة الانفصال بين المنفعة والسعادة؟ يثير السؤال قضية مدى معقولة قيام الحكومة بدور دفع الناس إلى القيام بأمور لا يريدونها، ببساطة لأنهم قد يصبحون أكثر سعادة نتيجة امتثالهم للحكومة. وقد يكون من الخطأ وضع سياسة على أساس استطلاعات السعادة ما لم تتوافر معايير جيدة للسعادة الحقيقية. واستطلاعات السعادة قد تعكس توقعات ثقافية بشأن ما يعتقد الناس أنه ينبغي عليهم قوله أو قد يفقد الناس تدريجياً قدرتهم على قياس مدى سعادتهم أو حزنهم عما كانوا عليه في الماضي. لكن من غير الحكمة أيضاً استبعاد عدم الارتباط بين السعادة والمنفعة لأنه ببساطة من الصعب قياس السعادة. وإذا كان الناس يرتكبون أخطاء باستمرار تجعل المجتمع أقل سعادة، فهذه مشكلة يجب معالجتها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
ويميل الاقتصاديون المحدثون إلى افتراض أن المنفعة خير وأن الناس يجب أن يحصلوا على ما يريدون. وحين يتحدث الاقتصاديون عن فكرة فائض المستهلك فإنهم يقصدون المنفعة التي يحصل عليها المستهلكون من صفقة جيدة على سلع استهلاكية. وعلم اقتصاد الرفاهية الذي يعالج السؤال الخاص بكيف يفيد الاقتصاد البشرية، غالبا ما ينظر إلى الرفاهية الاجتماعية باعتبارها طريقة لقياس لمدى إشباع الناس رغباتهم.
وهناك بالتأكيد أسباب لانتقاد هذه المقاربة الفلسفية. ففي المقام الأول، يتخذ الأفراد خيارات يندمون عليها فيما بعد. فالمدخنون يعلمون أنه يجب الإقلاع عن التدخين الآن لكنهم يؤجلون ذلك وبعد ذلك بسنوات ينتهي بهم الحال إلى تمنى لو أنهم كانوا أكثر صرامة مع أنفسهم. فهل يجب على المجتمع أن يهتم بأنفس الناس الحالية أو بأنفسهم في المستقبل؟
لكن هناك أسباب أعمق على السؤال بشأن إذا ما كان المجتمع يجب أن يشبع فحسب الرغبات الإنسانية طوال الوقت. تتصور نفعية «جيرمي بنتام» أن المجتمع الصالح هو ما يجعل أفراده سعداء. لكن ماذا لو لم تجلب الأشياء التي يرغب فيها الناس السعادة عليهم؟ ولا يوجد اتفاق واضح في الآراء بشأن كيفية قياس السعادة. فقد حاول بعض علماء الأعصاب ربطها بعدة معايير لنشاط المخ. لكن الاقتصاديين يميلون إلى استخدام وسيلة أرخص وأسرع بكثير. إنهم يرسلون عمليات مسح واستبيانات تسأل الناس عن مقدار ما يشعرون به من السعادة. وأدت الأبحاث عن السعادة إلى بعض النتائج المدهشة والمثيرة للقلق. فالناس يجرون وراء أشياء قليلة تجعلهم غير سعداء.
وأحد هذه الأشياء «فيسبوك»، أكبر شبكة تواصل اجتماعي في العالم. ففي ورقة بحثية، صدرت في الآونة الأخيرة، حقق الاقتصاديون «هانت الكوت» و«لوكا براغيري» و«سارة ايشماير» و«ماتيو جينتزكو» في مقدار المال الذي يتعين عليهم دفعه لمستخدمي «فيسبوك» كي يجعلوهم يوقفون تفعيل حسابهم على «فيسبوك» لشهر أو شهرين. ووجدوا أن المبلغ الوسيط هو 100 دولار وأن المتوسط الإجمالي يبلغ 180 دولاراً. وهذا يوحي أن «فيسبوك»- المجاني الاستخدام- يدر قدراً هائلاً من المنفعة أي أكثر من 370 مليار دولار في العام في صورة فائض المستهلك في الولايات المتحدة وحدها. وهذا يدعم حجة من يعتقدون أن الخدمات الرقمية المجانية أضافت كثيرا إلى ناتج لم يجر قياسه إلى الاقتصاد العالمي.
لكن «الكوت» والآخرين وجدوا أن الناس الذين أوقفوا حساباتهم على «فيسبوك» كجزء من التجربة أصبحوا أكثر سعادة في ما بعد وتحدثوا عن مستويات أعلى من الرضا الحياتي ومستويات أقل من الاكتئاب والقلق. فلماذا يرغب الناس في دفع الكثير من المال مقابل شيء يقلص سعادتهم؟ أحد الاحتمالات يتمثل في أن مواقع التواصل الاجتماعي تعمل كعقار مسبب للإدمان والواقع أن الناس الذين دفع لهم «الكوت» وآخرون المال ليوقفوا نشاط حسابهم على «فيسبوك» انتهى بهم الحال إلى استخدام «فيسبوك» أقل بعد انتهاء التجربة. لكن هناك احتمال آخر وهو أن الناس يستخدمون خدمات مثل «فيسبوك» لأنهم مدفوعون بالتحفيز وليس بالسعي وراء السعادة.
وهناك مثال آخر على الانفصال بين السعادة والمنفعة ويتعلق بالوقت المستغرق في الانتقال من المنزل إلى العمل. فلطالما توصل اقتصاديون وباحثون آخرون في مجال السعادة إلى أن مدة السفر أو الانتقال الطويلة ترتبط بعدم السعادة. لكن الناس مازالوا يدفعون الكثير من المال ليعيشوا في ضواحي نائية. وتوصل الاقتصادي «روبرت فرانك» أن المنازل الأوسع المتوافرة في الضواحي النائية لا تأتي بسعادة تعوض فترات الانتقال الطويلة وما ينجم عنها من عدم سعادة. توصلت ورقة بحثية للاقتصاديين «دانييل بنيامين» و«أوروي هيفتز»«ومايلز كيمبال» و«أليكس ريس جونز» إلى أن الناس يتوقعون أن تدعم الأشياء التي يدفعون مالا مقابلها سعادتهم لكن هذا لا يحدث دائماً.
وأخيرا، ما يجب على المجتمع فعله لمعالجة الانفصال بين المنفعة والسعادة؟ يثير السؤال قضية مدى معقولة قيام الحكومة بدور دفع الناس إلى القيام بأمور لا يريدونها، ببساطة لأنهم قد يصبحون أكثر سعادة نتيجة امتثالهم للحكومة. وقد يكون من الخطأ وضع سياسة على أساس استطلاعات السعادة ما لم تتوافر معايير جيدة للسعادة الحقيقية. واستطلاعات السعادة قد تعكس توقعات ثقافية بشأن ما يعتقد الناس أنه ينبغي عليهم قوله أو قد يفقد الناس تدريجياً قدرتهم على قياس مدى سعادتهم أو حزنهم عما كانوا عليه في الماضي. لكن من غير الحكمة أيضاً استبعاد عدم الارتباط بين السعادة والمنفعة لأنه ببساطة من الصعب قياس السعادة. وإذا كان الناس يرتكبون أخطاء باستمرار تجعل المجتمع أقل سعادة، فهذه مشكلة يجب معالجتها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»