التعصب والكراهية من الأخطار التي تواجه المجتمعات والحضارات البشرية قديماً وحديثاً. وقد تؤدي إلى حروب حمقاء وإلى توارث التصورات التي تحصر مجموعات بشرية في خانة الأعداء. كما أن الكراهية تنتج سوء الفهم وتخلط بين المفاهيم. وأقرب مثال على ذلك الخلط بين اليهودية كديانة وبين الصهيونية كأيديولوجيا متعصبة ومتغطرسة بل وعنصرية.
وقبل أيام حلت ذكرى ما يعرف بـ«الهولوكوست» وهي المحرقة النازية التي استهدفت إبادة اليهود على يد نظام ألمانيا النازية في عهد هتلر. وكل عام تفتح ذكرى المحرقة نفس الجدل، ويتجه المتعصبون إلى تعميم رؤيتهم لهذا الحدث. ويمكن القول إن هناك آراء تجاه قضية الهولوكوست يتم ترويجها من قبل طرفين متعصبين. الطرف الأول يمثله الجانب الصهيوني، الذي يحاول دائماً استثمار هذه الحادثة، بغرض الحديث عن مظلومية تاريخية، يدعي أنها تطال العرق اليهودي وأتباع الديانة اليهودية عموماً. وهذا غير صحيح، بدليل أن اليهود عاشوا في كل العصور، بما فيها العصر الإسلامي وعصر النهضة في أوروبا، حيث أبدعوا في العصرين، وكانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي. وبالنسبة لنا في الثقافة العربية والإسلامية، كان اليهود أحد المكونات الدينية التي جنت عليها الصهيونية، لأن اليهودية لم تكن قبل ظهور الصهيونية تمثل إشكالية، في ظل التسامح والتعايش الذي فرض نفسه وتم تقنينه ثم تحول إلى سلوك عام، وتحديداً في الأندلس التي شهدت ازدهاراً غير مسبوق لقيم التعايش.
أما التعصب الآخر الحالي فهو الذي يخلط بين اليهودية كديانة وبين الصهيونية كأيديولوجيا. ويقع الإعلام العربي كثيراً في هذا المأزق، عندما يستسلم لخطاب عاطفي، ويمارس دوراً يكرر من خلاله مواقف ترضي مشاعر الناس المتأثرين بسلوك الاحتلال الإسرائيلي القائم على الأيديولوجيا الصهيونية. وبذلك يتم الوقوع في الخلط بين المواقف السياسية والمواقف الإنسانية. فقد لا يتنبه كثيرون إلى أن الصهيونية المتعصبة تحصل على مكاسب عندما تنجح في دفع الآخرين إلى تعميم الكراهية وعدم التفريق بين أتباع الديانة اليهودية وبين المتعصبين الصهاينة. ويتجه البعض إلى السخرية من قضية المحرقة أو إنكار حدوثها، نتيجة لهذا الخلط في المفاهيم، ونتيجة لعدم استيعاب أنهم يقدمون خدمة للمتعصبين على الجانب الآخر.
يقال إن هتلر أحرق 6 ملايين يهودي. لكن من المنظور الإنساني يجب أن يكون الموقف الأخلاقي والقيمي تجاه هذه الواقعة مجرداً من أي خلفيات سياسية. وسواء أكان عدد ضحايا اليهود 6 ملايين أو 600 ألف أو 6 آلاف أو حتى 6 يهود ذهبوا ضحايا للمحرقة التي رتب لها نظام هتلر.. لابد أن الفطرة الإنسانية في كل الثقافات تعتبر أن حرق الإنسان عمل همجي، ولا يمكن التسامح مع فعل لا إنساني كهذا.
ويجب أن نتذكر كيف كانت ردود أفعالنا جميعاً على المستوى العالمي، عندما قام تنظيم «داعش» بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً. إذ لا يمكن نسيان ذلك المشهد المروع. والفارق بين انطباعنا تجاه تلك الواقعة وتجاه محرقة هتلر، أن العالم حالياً أصبح بالفعل قرية واحدة، يشاهد الحدث ذاته في وقت متزامن، لذلك تأتي ردود الأفعال قوية وصارمة.
نعود إلى قضية المحرقة اليهودية، في ذكراها الجديدة، ونرى أن استنكار ما حدث لليهود في العهد النازي لا يتناقض مع الموقف الراسخ والثابت تجاه القضية الفلسطينية، بل إن من يستنكر محرقة الهولوكوست يزداد موقفه قوة أخلاقية وإنسانية. ويجب أن نفرق بين القضايا السياسية والقضايا الإنسانية. فجريمة هتلر، وإن كانت الصهيونية تستغلها لحث الآخرين على التعاطف معها، فإن هذه الأمر لا يمنع من استنكار المحرقة من الزاوية الإنسانية.
ويفترض كذلك أن ينتهي زمن توظيف وسائل الإعلام لتهييج الرأي العام بأساليب عاطفية تسبب التعصب. لأن تلك الأساليب القديمة عملت ولا تزال تعمل على تهيئة العقول للتطرف. فكيف نسمح لوسائل الإعلام بنشر وبث أفكار المتطرفين والمتعصبين ثم نشكو بعد ذلك من انتشار الإرهاب؟
لعل المدخل المناسب لنشر ثقافة التسامح والتعايش وإنهاء التعصب هو إعادة ترسيخ ثقافة احترام كافة الأديان، مع ضرورة توضيح الفرق بين اليهودية كديانة والصهيونية كأيديولوجيا. فالمعتقدات مهما اختلفت تبقى من الحقوق الإنسانية.
*كاتب إماراتي