رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي نجت، لكن جهودها بخصوص البريكسيت قد لا تنجو. وهذا سيكون أمراً سيئاً لبريطانيا؛ إذ أياً تكن التحديات التي تطرحها البريكسيت للملكة المتحدة، فإنها تتضاءل مقارنة مع ما ستواجهه إن بقيت في الاتحاد الأوروبي، نظراً لمشاكل القارة الكثيرة. فالاتحاد الأوروبي في أزمة، والرأي العام في بلدانه يزداد شعبوية مع مرور كل يوم. والحكومة الإيطالية تبنت ميزانية تتعارض مع قواعد الاتحاد الأوروبي وتوجيهاته، ما سيطلق تحدياً أوروبياً جديداً سيختبر ما إن كانت الحكومات داخل الاتحاد الأوروبي ذات سيادة حقاً. وفضلاً عن ذلك، فإن ركني الاتحاد الأوروبي، فرنسا وألمانيا، يعانيان من انعدام الاستقرار السياسي الذي من شبه المؤكد أنه سيزداد.
والاحتجاجات الأخيرة ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تُظهر مدى ضعف وهشاشة الاستقرار السياسي للاتحاد الأوروبي. فسياساته دفعت الناخبين الفرنسيين العاديين إلى شفير الهاوية. ونتيجة لذلك، تدنت معدلات التأييد الشعبي لماكرون الآن إلى ما تحت 25 في المئة، ما جعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب يبدو أشبه بمنقذ وطني بالمقارنة!
إن انتصار ماكرون الكبير العام الماضي كان وهمياً إلى حد ما. ففي الجولة الأولى حصل ماكرن ومؤيدون آخرون للوضع الراهن على 50.4 في المئة من الأصوات فقط، بينما حصل الشعبويون من اليسار واليمين على باقي الأصوات. ولو استطاع الشعبويون توحيد صفوفهم، ربما تحت لافتة المحتجين، فإن تحولاً صغيراً في المزاج العام الفرنسي كان سيجعل من فرنسا أحدث وأكبر دولة تتبنى الشعبوية. وهذا من شأنه بكل تأكيد زيادة عجز الميزانية الفرنسية، وزيادة احتمال إنقاذ مالي مستقبلي تموّله بريطانيا، وتقليص الدعم الفرنسي لاقتصاد السوق النيوليبرالي الذي يدعو له مؤيدو «البقاء».
هذه التحولات كانت ستكون أقل أهمية بالنسبة لبريطانيا لو كان الاتحاد الأوروبي مؤسسة ديمقراطية حقاً. ولو كان الاتحاد كذلك بالفعل، لكان استقرار بريطانيا النسبي ونموها سيمنحانها نفوذاً أكبر. لكن الاتحاد الأوروبي ليس نموذجاً ديمقراطياً ناجحاً. فقد أُسس في عام 1957 بهدف ربط ألمانيا وفرنسا معاً بشكل أساسي، ومنع تكرار النزاعات التي مزقت القارة الأوروبية من قبل. وبعد ستين عاماً على ذلك التأسيس، ما زال الاتحاد إلى حد كبير عبارة عن «تحالف فرنسي ألماني» تبدو أمامه معظم الدول، وأعضاء البرلمان الأوروبي، بلا حول ولا قوة.
تصوّر كيف يمكن أن يكون عليه الحال خلال العقد المقبل فيما لو بقيت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. فالقوة الاقتصادية النسبية لبريطانيا جذبت أكثر من مليوني مواطن من الاتحاد الأوروبي من أجل العمل داخل حدودها. وفي حال تعرّض اقتصاد أوروبا القارية للمزيد من الركود الاقتصادي، فإن ذلك التدفق سيزداد ويتضخم على الأرجح، مما سيزيد من حدة رد الفعل الشعبي القوي الذي أفضى إلى انتصار حملة «الانسحاب» أصلاً. وفي حال عجزت إيطاليا عن تسديد ما بذمتها من ديون، وهو احتمال متزايد، فأغلب الظن أنه سيُطلب من بريطانيا أن تتحمل بعضاً من كلفة الإنقاذ المالي. والأكيد أن مزيداً من الهجرة ومزيداً من الضرائب من أجل تمويل مزيد من حزمات الإنقاذ المالي.. شيءٌ لن يتقبله الناخبون البريطانيون.
وعلاوة على ذلك، فإن المتفائلين الذين يعتقدون أن من شأن البقاء السماح لبريطانيا بالتأثير في سياسات الاتحاد الأوروبي يتجاهلون الأمثلة العديدة التي تفيد بالعكس. فرفض الاتحاد الأوروبي طلب رئيسة الوزراء البريطانية إدخال تعديلات طفيفة على اتفاقها الخاص بالخروج، ليس سوى الأحدث ضمن سلسلة من الأحداث التي تُظهر عدم احترام الاتحاد الأوروبي لبريطانيا. والحقيقة المحزنة هي أن الاتحاد الأوروبي ينظر إلى بريطانيا باعتبارها البقرة الحلوب المدرة للمال، والتي يبعث اقتصادُها المالَ بشكل مباشر وغير مباشر إلى الدول الأعضاء الأخرى. وهو لن يتوانى عن حلب البقرة إلى أن يجف ضرعها.
والواقع أن مستقبل بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي سيكون مشرقاً حتى بعد تحول ضروري وربما مؤلم. فبريطانيا الحديثة هي ثمرة 30 سنة من الإصلاح الذي بدأته مارجريت تاتشر وأكمله توني بلير. فقد أعادت جهودهما تنشيط التفاؤل البريطاني والمبادرة البريطانية. وخلق التحريرُ المالي مقروناً بالإصلاحات المؤيدة للسوق «محركَ لندن» الذي يجذب العمال من كل أرجاء العالم. وهؤلاء العمال لا يأتون لأنهم يتوقون إلى الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، بل يأتون لأنهم يتوقون للوصول إلى نقطة القوة الحقيقية لبريطانيا وشعبها.
إن الخوف من المستقبل شيء يمكن تفهمه. وكما كتب الرئيس الأميركي رونالد ريجن ذات مرة، فإن «الطبيعة البشرية تقاوم التغيير». ولا شك أن البريكسيت يمثل تغييراً جذرياً، ولكن يجدر ببريطانيا تبنيه مع ذلك، لأنه قريباً ستصبح أوروبا بمثابة الأثقال الحديدية في قدمي بريطانيا. وبالتالي، فحري بها أن تفر الآن وتتبني ما قد يصبح أفضل إنجازاتها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
والاحتجاجات الأخيرة ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تُظهر مدى ضعف وهشاشة الاستقرار السياسي للاتحاد الأوروبي. فسياساته دفعت الناخبين الفرنسيين العاديين إلى شفير الهاوية. ونتيجة لذلك، تدنت معدلات التأييد الشعبي لماكرون الآن إلى ما تحت 25 في المئة، ما جعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب يبدو أشبه بمنقذ وطني بالمقارنة!
إن انتصار ماكرون الكبير العام الماضي كان وهمياً إلى حد ما. ففي الجولة الأولى حصل ماكرن ومؤيدون آخرون للوضع الراهن على 50.4 في المئة من الأصوات فقط، بينما حصل الشعبويون من اليسار واليمين على باقي الأصوات. ولو استطاع الشعبويون توحيد صفوفهم، ربما تحت لافتة المحتجين، فإن تحولاً صغيراً في المزاج العام الفرنسي كان سيجعل من فرنسا أحدث وأكبر دولة تتبنى الشعبوية. وهذا من شأنه بكل تأكيد زيادة عجز الميزانية الفرنسية، وزيادة احتمال إنقاذ مالي مستقبلي تموّله بريطانيا، وتقليص الدعم الفرنسي لاقتصاد السوق النيوليبرالي الذي يدعو له مؤيدو «البقاء».
هذه التحولات كانت ستكون أقل أهمية بالنسبة لبريطانيا لو كان الاتحاد الأوروبي مؤسسة ديمقراطية حقاً. ولو كان الاتحاد كذلك بالفعل، لكان استقرار بريطانيا النسبي ونموها سيمنحانها نفوذاً أكبر. لكن الاتحاد الأوروبي ليس نموذجاً ديمقراطياً ناجحاً. فقد أُسس في عام 1957 بهدف ربط ألمانيا وفرنسا معاً بشكل أساسي، ومنع تكرار النزاعات التي مزقت القارة الأوروبية من قبل. وبعد ستين عاماً على ذلك التأسيس، ما زال الاتحاد إلى حد كبير عبارة عن «تحالف فرنسي ألماني» تبدو أمامه معظم الدول، وأعضاء البرلمان الأوروبي، بلا حول ولا قوة.
تصوّر كيف يمكن أن يكون عليه الحال خلال العقد المقبل فيما لو بقيت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. فالقوة الاقتصادية النسبية لبريطانيا جذبت أكثر من مليوني مواطن من الاتحاد الأوروبي من أجل العمل داخل حدودها. وفي حال تعرّض اقتصاد أوروبا القارية للمزيد من الركود الاقتصادي، فإن ذلك التدفق سيزداد ويتضخم على الأرجح، مما سيزيد من حدة رد الفعل الشعبي القوي الذي أفضى إلى انتصار حملة «الانسحاب» أصلاً. وفي حال عجزت إيطاليا عن تسديد ما بذمتها من ديون، وهو احتمال متزايد، فأغلب الظن أنه سيُطلب من بريطانيا أن تتحمل بعضاً من كلفة الإنقاذ المالي. والأكيد أن مزيداً من الهجرة ومزيداً من الضرائب من أجل تمويل مزيد من حزمات الإنقاذ المالي.. شيءٌ لن يتقبله الناخبون البريطانيون.
وعلاوة على ذلك، فإن المتفائلين الذين يعتقدون أن من شأن البقاء السماح لبريطانيا بالتأثير في سياسات الاتحاد الأوروبي يتجاهلون الأمثلة العديدة التي تفيد بالعكس. فرفض الاتحاد الأوروبي طلب رئيسة الوزراء البريطانية إدخال تعديلات طفيفة على اتفاقها الخاص بالخروج، ليس سوى الأحدث ضمن سلسلة من الأحداث التي تُظهر عدم احترام الاتحاد الأوروبي لبريطانيا. والحقيقة المحزنة هي أن الاتحاد الأوروبي ينظر إلى بريطانيا باعتبارها البقرة الحلوب المدرة للمال، والتي يبعث اقتصادُها المالَ بشكل مباشر وغير مباشر إلى الدول الأعضاء الأخرى. وهو لن يتوانى عن حلب البقرة إلى أن يجف ضرعها.
والواقع أن مستقبل بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي سيكون مشرقاً حتى بعد تحول ضروري وربما مؤلم. فبريطانيا الحديثة هي ثمرة 30 سنة من الإصلاح الذي بدأته مارجريت تاتشر وأكمله توني بلير. فقد أعادت جهودهما تنشيط التفاؤل البريطاني والمبادرة البريطانية. وخلق التحريرُ المالي مقروناً بالإصلاحات المؤيدة للسوق «محركَ لندن» الذي يجذب العمال من كل أرجاء العالم. وهؤلاء العمال لا يأتون لأنهم يتوقون إلى الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، بل يأتون لأنهم يتوقون للوصول إلى نقطة القوة الحقيقية لبريطانيا وشعبها.
إن الخوف من المستقبل شيء يمكن تفهمه. وكما كتب الرئيس الأميركي رونالد ريجن ذات مرة، فإن «الطبيعة البشرية تقاوم التغيير». ولا شك أن البريكسيت يمثل تغييراً جذرياً، ولكن يجدر ببريطانيا تبنيه مع ذلك، لأنه قريباً ستصبح أوروبا بمثابة الأثقال الحديدية في قدمي بريطانيا. وبالتالي، فحري بها أن تفر الآن وتتبني ما قد يصبح أفضل إنجازاتها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»