في المراحل الأولى من تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، كانت الحاجة ملحة للاستعانة بالكفاءات الأجنبية في قيادة المناصب التنفيذية العليا في القطاع المصرفي؛ وذلك نظراً إلى ما امتلكته تلك الكفاءات من خبرات مهنية متقدمة، ومعرفة واسعة بأفضل الممارسات العالمية التي كانت ضرورية في ذلك الوقت؛ ولكن الصورة اليوم تغيرت تغيراً جذريّاً؛ فالكفاءات الإماراتية أصبحت تمتلك قدرات استثنائية، وخبرات نوعية، وتمتاز برؤية عالمية ومشاركة مؤثرة وفاعلة في المنصات الاقتصادية الدولية؛ ما يؤهلها لقيادة القطاع المصرفي الوطني بجدارة واقتدار.

وتتجلى هذه الكفاءات بوضوح في الإنجازات المتميزة التي حققها قطاع الخدمات المالية الإماراتي أخيراً، ومن أبرزها النمو السريع للبنوك الرقمية الإماراتية، وجودة نتائجها المالية، إضافة إلى البرامج الابتكارية والتحويلية التي أطلقتها الجهات التنظيمية، مثل برنامج العملة الرقمية من المصرف المركزي، ومشروع (mBridge).

وكذلك يُضاف إلى هذه الإنجازات النمو المتميز الذي شهده سوق أبوظبي العالمي ومركز دبي المالي العالمي، فضلاً عن الدور المحوري لصناديق الثروة السيادية الإماراتية، والشركات الاستثمارية الوطنية، التي أسهمت بشكل بارز في تعزيز مكانة أبوظبي عاصمةً عالميةً لرأس المال. ولا شك أن هذه النجاحات تؤكد جاهزية الكوادر الإماراتية لقيادة قطاع الخدمات المالية، والتوسع به نحو آفاق جديدة.
وبرغم ذلك؛ فإن هناك فجوة واضحة في توطين مناصب استراتيجية وحساسة في القطاع المصرفي الإماراتي، أبرزها المدير المالي (CFO)، ومدير المخاطر (CRO)، ومديرو إدارات الخزينة والائتمان؛ إذ لا تزال هذه المناصب تتركز في أيدي كوادر أجنبية محدودة. وهذا الواقع يثير تساؤلات جادة بشأن أسباب عدم تمكن الكفاءات الوطنية من الوصول إلى هذه المناصب القيادية والتخصصية الشديدة الأهمية، وهو أمر يحد من فرص تطوير القيادات الوطنية المصرفية، ويؤثر سلباً في قدرتها على اكتساب الخبرات اللازمة لقيادة أهم فروع قطاع الخدمات المالية في الاقتصاد الوطني.
إن تداعيات هذه الفجوة لا تقتصر على إضعاف مشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات المصرفية الاستراتيجية فقط، بل تشمل أيضاً تهميشاً غير مقصود للعملاء المحليين والشركات الوطنية، لمصلحة عملاء وجهات أجنبية تحت مبررات تتعلق بتفوق الأجانب في بناء العلاقات الدولية، أو قدرتهم على التواصل الخارجي، أو كفاءتهم الفنية العالية. وهذا التوجه، وإن لم يكن متعمداً، يتطلب تدخلًا عاجلاً لتصحيحه ومعالجته، من أجل استعادة التوازن المطلوب، وتحقيق المصالح العليا للاقتصاد الوطني.
وبالرغم من أن المواطنين يتمركزون –ولله الحمد– في مناصب الرئاسة التنفيذية، وهذه خطوة مهمة تُقدّر وتُثمّن عالياً؛ فإن المناصب العليا الأخرى المكملة لهذه المناصب، وكذا المناصب القيادية التنفيذية التخصصية المتوسطة، التي تُعد حلقة وصل أساسية بين العملاء والإدارة العليا، لا تزال تعاني نقصاً واضحاً في التوطين. وهذا النقص، في ظل تزايد المواقف المصرفية الجديدة والمعاملات التي تتطلب قرارات بشرية مدروسة تعتمد على الخبرة المصرفية والفهم الاجتماعي، يؤدي إلى فجوة استراتيجية كبيرة قد ينتج عنها أحياناً تدقيق مبالغ فيه على طلبات العملاء المواطنين ذوي الظروف الخاصة، أو فرض قيود ومتطلبات غير مبررة عليهم، وتعطيل معاملاتهم، وأحياناً حدوث تحيزات شخصية غير متعمدة عند نقل المعلومات إلى صنّاع القرار المصرفي.

وفي حال استمرار هذه الحالة من دون معالجة، قد تمتد تداعياتها السلبية لتحدّ من دور العديد من الأفراد والمواطنين والشركات المحلية الناشئة والقائمة في التنمية الاقتصادية، كما أنها ستؤثر سلباً في جودة القرارات المالية التي يتخذها القطاع المصرفي، ومدى انسجامها مع الأولويات الوطنية.
وختاماً، فإننا لا نقصد بتاتاً -من طرحنا هذا- التقليل من شأن الخبرات الأجنبية التي قدّمت -ولا تزال تقدم- الكثير لقطاع الخدمات المالية في دولتنا الحبيبة، وإنما نؤكد أهمية إعادة التوازن في الإدارة التنفيذية الشاملة للقطاع المصرفي، بما ينسجم مع القدرات الوطنية التي تتمتع بها كوادرنا الإماراتية، وبما يواكب تطلعات الدولة وطموحاتها المستقبلية؛ لذلك، فإن توطين هذه المناصب بات ضرورة استراتيجية لتعزيز السيادة الاقتصادية، وتحقيق الشمول المالي، والاستفادة القصوى من إمكانيات أبناء وبنات الإمارات، الذين أثبتوا جدارتهم وقدرتهم على قيادة مستقبل قطاع الخدمات المالية بكل نجاح، وكل اقتدار.
*رائد أعمال إماراتي