بوفاة قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، فقد العالم واحداً من أبرز رموز التسامح والدعوة للتعايش بين بني البشر على اختلاف دياناتهم، والذي أمضى سنواته داعياً إلى نشر المحبة والسلام وكان بحق أيقونة لتعاليم السيد المسيح خلال فترة بابويته التي استمرت 12 عاماً، رسخ خلالها مكانته رمزاً عالمياً للسلام والتسامح والعدالة الإنسانية.
أقيمت الجنازة صباح السبت الماضي، وسط إجراءات أمنية مشددة، بحضور شعبي واسع ورسمي (ضم أكثر من 50 رئيس دولة وملكاً)، كما حرص عشرات الآلاف على إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على مدار ثلاثة أيام، حينما وضعوا جثمانه في تابوت مكشوف في كاتدرائية القديس بطرس، قبل أن يتم نقله إلى بازيليك سانتا ماريا ماجوري في روما، حيث ُوورى الثرى تنفيذاً لوصية البابا الراحل.
والبابا الراحل الذي يحمل الرقم 266 للكنيسة الكاثوليكية، يحسب على الجناح الإصلاحي في الكنيسة، وقد شغل منصب رئيس الأساقفة في كنيسة بيونس آيرس قبل انتخابه لموقع البابوية، وكان البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني قد منحه رتبة الكاردينالية عام 2001، حيث اختار اسم فرنسيس تأسياً بالقديس فرنسيس الأسيزي - أحد مُعلمي الكنيسة الجامعة -والذي كان معروفاً ببساطته والدفاع عن الفقراء والتعاطف مع حالة العوز التي يعيشونها.
كان البابا الراحل رمزاً لمبادئ الخير، وأظهر تعاطفاً كبيراً مع ضحايا الحروب والصراعات، واستشعر الجميع صدق نواياه من واقع تجربته الشخصية المباشرة ومعاناة عائلته، فقد فر والداه من إيطاليا إلى الأرجنتين قبل مولده، هرباً من النظام الفاشي آنذاك.
وسادت حالة من الحزن حول العالم، بعدما دقت أجراس الكنائس في الفاتيكان، معلنة نبأ الوفاة يوم «اثنين الفصح»، حيث سارع زعماء وقادة الدول إلى نعي الحَبر الأعظم، الذي وصفوه بـ «صوت العدالة والسلام» و«نصير للفقراء»، وداعية الحوار بين الأديان والثقافات.
ونعاه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عبر منصة «إكس»، واصفاً إياه: «بالرمز العالمي للتسامح والمحبة والتضامن الإنساني ورفض الحروب، وعمل مع الإمارات لسنوات من أجل تكريس هذه القيم لمصلحة البشرية»، فيما عبر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في نعيه عن «شعور بحزن عميق لسماع وفاة قداسة البابا فرنسيس، قائد عظيم أثر تعاطفه والتزامه بالسلام على حياة لا حصر لها. وسيستمر إرثه من التواضع والوحدة بين الأديان في إلهام العديد من المجتمعات في جميع أنحاء العالم». 
وفي آخر ظهور علني له قبل وفاته بساعات بمناسبة عيد الفصح، قام بجولة بين المصلين في باحة القديس بطرس بسيارته، وبدا متعباً فلم يتمكّن إلا من قول بضع كلمات قصيرة، بينما تلا أحد مساعديه النص الذي أراد التوجه به إلى المصلين.
ولاحقاً نشر الفاتيكان نص رسالة البابا الأخيرة، حيث بدت كهمسة سلام من قلب أنهكته الأوجاع والآلام، ما يكشف عن اهتمامه المستمر بالقضايا الإنسانية والنزاعات التي تمس الأبرياء، خاصة في مناطق الصراع، ودعا في كلمته إلى إنهاء الصراعات في جميع أنحاء العالم، وفي مقدمتها حربا أوكرانيا وغزة، وأعرب عن أسفه لما يحدث من «موت ودمار»، مما أدى إلى «وضع إنساني مأساوي ومؤسف» في القطاع الفلسطيني المحاصر.
لا ننسى علاقته الوثيقة بالإمارات وزيارته التاريخية لأبوظبي في فبراير 2019، والتي توجها بتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية إلى جانب فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، برعاية قيادة الإمارات، مما ساهم في ترسيخ قيم الأخوة الإنسانية والتكافل الاجتماعي القائم على مفهوم أن البشر ليسوا فقط متساوين، ولكن مترابطون فيما بينهم بشكل وثيق، كأخوة، في إطار أسرة إنسانية واحدة.
لا شك أن هذه الوثيقة تعكس جانباً مهماً من شخصية البابا الراحل، وتبرز بوضوح إلى أي مدى كان اهتمامه وانشغاله بمنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، والتي أرهقتها إساءة المتطرفين، واستنزفتها العمليات الدموية للإرهابيين، وسوف يكون لبصمته ثمار وفوائد كبيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إنني على يقين أن مبادئ البابا فرنسيس ستظل نبراساً ينير درب الإنسانية، وسوف يبقى في وجدان المنتمين إلى جميع الديانات، ليذكره التاريخ كقائد استثنائي وقامة روحية ملهمة، صاحب بصمة خالدة جسد بأفعاله وأقواله قيماً نبيلة، كما كان صوتاً للحق في وجه الظلم، ومدافعاً لا يلين عن الفقراء والمضطهدين، وصانعاً لجسور الحوار بين أتباع الديانات والثقافات.