في محاولتنا فهم ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، وقع الكثير منا في خطأ افتراض أنه لم يكن يقصد حقاً ما قاله. بالطبع، لن يضم ترامب كندا أو جرينلاند - أليس كذلك؟ من المؤكد أنه لن يلقي باللوم على أوكرانيا على تعرضها للغزو ويقف إلى جانب روسيا في الأمم المتحدة - أليس كذلك؟ ومع أنه قد يُلوّح بالرسوم الجمركية كأداة خطابية، لكنه لن يعلن حرباً اقتصادية على العالم - أليس كذلك؟ وبشكل عام، فور خروجه من طور الحملات الانتخابية، لن يتخلى فعلاً عن دور أميركا بعد الحرب العالمية الثانية كقائد وعامل لاستقرار النظام الدولي. لن يُحوِّل الولايات المتحدة من فاعل خيّر إلى فاعل مُهمل، ناهيك عن أن يكون خبيثاً. أو هل سيفعل؟
نعم، سيفعل. ونعم، بصفته رئيساً، فهو الآن يفعل كل هذه الأمور وأكثر. بعد أقل من 100 يوم على بداية ولايته الثانية، لم يعد بمقدور أنصار ترامب من حركة «اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً» أن يضللوا منتقديه ويقنعوهم بأنهم يبالغون في أخذ ترامب حرفياً. المسار يتجه نحو الانعزالية، والإمبريالية، والتقلب، والفوضى.
لنبدأ بالبنية التحتية المملة ولكن الأساسية للدبلوماسية الأميركية، المتمثلة في وزارة الخارجية وفروعها المتنوعة. ووفقاً لمذكرة داخلية، تخطط إدارة ترامب لتقليص ميزانية الوزارة إلى النصف في العام المالي المقبل. وهذا يعني أن الولايات المتحدة ستغلق أو تقلص العديد من بعثاتها الخارجية. وتصف مذكرة أخرى خططاً للتخلص من 10 سفارات و17 قنصلية وتقليل عدد الموظفين في بعثات أخرى. ويُقال إن ستاً من السفارات المزمع إغلاقها تقع في أفريقيا، تماماً في الوقت الذي تضاعف فيه الصين وروسيا جهودهما لجذب تلك الدول، ودول الجنوب العالمي عموماً، من المعسكر الغربي في الجغرافيا السياسية إلى معسكرها الخاص.
كما أن «صوت» أميركا في هذه المناطق قد خفت على موجات الأثير، بعد أن قام ترامب بتقويض إذاعة «صوت أميركا»، وإذاعة «أوروبا الحرة»، وإذاعة «الحرية»، وإذاعة «آسيا الحرة». ومنذ أن دمّر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، لم تعد طرود المساعدات الأميركية تصل إلى ضحايا الزلازل في ميانمار أو في أي مكان آخر تقريباً.
ومن النتائج الأخرى لتلك التخفيضات في الميزانية تقليص الأموال المخصصة للمساعدات الإنسانية، والمشاريع الصحية العالمية، والمنظمات الدولية. فلن يُخصص تقريباً أي تمويل للأمم المتحدة، وحلف الناتو، ونحو 20 مؤسسة أخرى. كما سيتم إلغاء التمويل المخصص لبعثات حفظ السلام الدولية بشكل كامل.
ومثلما أصبح حفظ السلام خارج الحسابات، فإن مكافحة الأوبئة كذلك. وأعلن ترامب بالفعل انسحاب أميركا من منظمة الصحة العالمية. وهذا ترك بقية الأعضاء الـ 193 ليكملوا بمفردهم مفاوضات معاهدة طال انتظارها، تهدف للوقاية من تفشي الأوبئة المستقبلية والسيطرة عليها ومشاركة الأدوية واللقاحات بشكل أكثر فعالية وعدالة مما حدث أثناء كوفيد. من المفترض أن الولايات المتحدة لن تكون طرفاً في ذلك. وبالنسبة للتغير المناخي؟ لا تسأل.
وتكمن المشكلة الآن في تفكيك أدوات «القوة الناعمة» الأميركية. فمنذ 76 عاماً، لم يكن هناك تجسيد «أقوى» للقوة الأميركية من منظمة حلف شمال الأطلسي التي تقودها الولايات المتحدة. لقد حالت مصداقيتها، المدعومة بالقوات والدبابات والأسلحة النووية الأميركية في أوروبا، دون اندلاع حرب عالمية ثالثة بردع السوفييت، وحتى الآن، الروس. ولكن ترامب حولها إلى نوع من الضغوط الحمائية، مشيراً إلى أنه لن يدافع عن الحلفاء الذين لا ينفقون 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي - أو 5%، أو أي رقم آخر يختاره لاحقاً - على جيوشهم.
ويفكر ترامب الآن بالتخلي عن امتياز أميركا في تعيين قائد قوات الحلفاء في أوروبا، وهو المنصب الذي يشغله حالياً الجنرال «كريستوفر كافولي»، عند انتهاء ولايته هذا الصيف. القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا هو القائد العسكري الذي سيوجه جيوش جميع الحلفاء في حالة نشوب حرب ضد معتدٍ، والذي سينقل إلى الرئيس الأميركي طلبات نشر الأسلحة النووية الأميركية المتمركزة في أوروبا. كان دوايت أيزنهاور أول من تولى هذا المنصب، ومنذ عهد أيزنهاور، ومنذ ذلك الحين، لم يكن من المتخيل أن يتولى شخص غير أميركي هذا المنصب.
إن تعيين أوروبي أو كندي في هذا المنصب سيثير أسئلة قانونية حول سلطته في إصدار أوامر للقوات الأميركية. كما أن التخلي عن المنصب سيكون بمثابة تباعد رمزي عن الحلف. سيرى الأوروبيون الخطوة كمؤشر آخر على انسحاب أميركا من الناتو. أما الكرملين فسيفسرها على أنها زيادة في الغموض ونقص في المصداقية، وبالتالي في الردع.
كانت أميركا القوة التأسيسية في إنشاء وبناء الأمم المتحدة، وحلف الناتو، ومنظمة التجارة العالمية (التي لا تزال موجودة اسماً فقط على ما يبدو) وغيرها من المؤسسات التي كان الهدف منها الحفاظ على السلام، وزيادة الازدهار، والحفاظ على قدر من النظام. فعلت الولايات المتحدة ذلك لأنها رأت فوائد ذلك للعالم - ورأت نفسها جزءاً من ذلك العالم. أما ترامب، فلا يرى أيّا من ذلك.
وهكذا، ينهار النظام العالمي، أولاً تدريجياً، ثم فجأة. لقد انتهى السلام الأميركي (باكس أميركانا) - العالم الذي كانت فيه الدول، كبيرة وصغيرة، تستطيع أن تأمل على الأقل بالازدهار تحت نظرة رحيمة من قوة عظمى وهيمنة خيّرة - كل ذلك قد أصبح شيئاً من الماضي.
لقد وجّه ترامب في أول 100 يوم من ولايته الثانية دفة الدولة الأميركية نحو مسار جديد في التعامل مع الشؤون الدولية، فإذا غزا كندا أو جرينلاند أو أي مكان - أو تخلى عن أوكرانيا - فقد يتحول الأمر لنقول: وداعاً للقرن الأميركي.
*كاتب متخصص في الدبلوماسية الأميركية، والأمن القومي، والجغرافيا السياسية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»