عقدت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، الأسبوع الماضي، مؤتمراً حاشداً هو مؤتمرها الدولي الثالث للدراسات الإسلامية، تحت عنوانٍ كبيرٍ وبالغ الأهمية هو «المواطنة والهوية وقيم العيش المشترك»، أُلقيت فيه عشرات الأوراق العلمية وشارك فيه مفكرون وباحثون وأكاديميون ومسؤولون من شتى بقاع العالم، ما جعله مستحقاً بالفعل تسميتَه مؤتمراً دولياً. النقد الذي يوجه للجامعات والأكاديميات العلمية كثير وواسع في العالم بأسره، شرقاً وغرباً، وأدوار الجامعات في تعزيز العلم وترقيته والتأثير الإيجابي في حياة المجتمعات وتاريخ الحضارات تتعرض لنقدٍ دائمٍ بسبب البحث المستمر عن الأفضل وبخاصةٍ في مجال التعليم والعلم.

هذه الجامعة الفتية بين مثيلاتها في العالم الإسلامي تتمتع بتأثير كبيرٍ، فقد أنشئت قبل سنواتٍ خمسٍ لا أقل ولا أكثر. وبناءً على رؤية مؤسسها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، جمعت بين الجِدة في الدراسات الإنسانية واستقطاب العقول النابهة من الأكاديميين والتركيز على ما يرسخ مفاهيم إنسانية وإسلامية كبرى غفل عنها الكثير من الناس، مثل مفهوم «التسامح» ومفهوم «التعايش»، وهما مفهومان توليهما الجامعة عنايةً خاصةً بعدما أُهملا لعقودٍ وقرونٍ من الزمن.

إهمال «التسامح» و«التعايش» في الثقافة العربية والإسلامية أمرٌ جديرٌ بالدرس والتحليل، وذلك لصالح مفاهيم مناقضة لهما تم نشرها وترسيخها عبر فترات طويلة في التاريخ، مثل مفاهيم «الحاكمية» و«الجاهلية» و«الولاء والبراء» و«التكفير».. وعشرات المفاهيم الأخرى التي تتفرع عنها وتدور في فلكها، مما كان يخدم أيديولوجياتٍ وتنظيماتٍ سياسيةً سعت جهدها لاختطاف «الإسلام» وجعله مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة بشتى أشكالها.

وهذه الأيديولوجيات والتنظيمات يجمعها ما بات يعرف باسم «الإسلام السياسي». قدّم كاتب هذه السطور ورقةً في المؤتمر الدولي لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية تحت عنوان «المواطنة والأصوليات والحزبيات الحديثة»، آثر فيها التحدث بصراحةٍ عن إشكاليات الثقافة العربية وتقصير رموزها في ترسيخ مفاهيم الدولة الحديثة مثل «المواطنة» و«الوطنية» و«الوطن»، مما سمح بانتشار مفاهيم أخرى مثل «القومية» لدى القوميين العرب بأصنافهم الناصرية والبعثية، و«الأممية» لدى اليساريين الذين خلفتهم عليها تيارات الإسلام السياسي وصارت تبشر بها بالمعنى الديني.وجاء في الورقة أن المشتغلين بالمصطلحات والتعريفات يعانون كثيراً في تحديد المفاهيم الجديدة ومنح التعريفات للظواهر والجماعات والأفكار، ومن هذا في عصرنا الحديث والمعاصر تحديد معنى «الإسلام السياسي» وماذا يعني تحديداً لدى مستخدميه من مؤيديه ورافضيه على حدٍّ سواء؟ وهل «الإسلام السياسي» هو دين الإسلام؟

يفترض أن الإجابة عن هذا السؤال باتت واضحةً جداً، حتى لدى عوام المسلمين، فضلاً عن مثقفيهم، وأن «الإسلام» كدينٍ سماوي يعتنقه أكثر من مليارٍ ونصف مليار من البشر لا علاقة له بأي تسميات ترتبط به لتوجيهه بأي اتجاه يريده مَن أطلق تلك التسمية. فمن يطرح «الإسلام السياسي» أو «الإسلام الثوري» أو «الإسلام العنيف» أو يطرح «الإرهاب الإسلامي» أو «الإسلاموفوبيا».. كلهم يتحركون في مساحةٍ تختلف عن «الدين الإسلامي» نفسه، لكنهم جميعاً يعبرون عن تفاعلاتٍ بشريةٍ مع هذا «الدين» وآثاره في التاريخ والثقافة والجغرافيا، وعن استخدامه في الأهداف والوسائل والغايات البشرية.

وتوجد عشرات التسميات المماثلة، والتي رصد كثيراً منها الدكتور عبدالمجيد الشرفي في مشروعه الكبير الذي أشرف عليه وخرج في عدة كتبٍ تحت عنوانٍ واحدٍ هو «الإسلام واحداً ومتعدداً». وأخيراً، فإن جدل الهويات وتعددها وتطورها وتقسيمها وطبقاتها جدلٌ مهمٌ تاريخياً وثقافياً وسياسياً، ومثله الجدل حول «المواطنة» وحقوقها وواجباتها تحت ظل الدولة الحديثة وقوانينها، ودور الجامعات الحية هو إثارة الجدل المفيد الذي يبني ويوجه التفكير نحو الأفضل والمفيد.

*كاتب سعودي