القاعدة تقول إن السلام خيار ممكنٌ دائماً، مثله مثل الحرب، شرط أن تتوفّر الإرادة السياسية. قليلةٌ هي الوقائع التي نجحت في تجنّب الحروب قبل وقوعها، أو في معالجة حاسمة لتوتّرات تعاود إثارة الخلافات. هناك في اللحظة الراهنة ثلاث محاولات تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً محورياً وتترجّح فيها التوقّعات بين النجاح والتعثّر: إمّا لأن الملفات صعبة ومعقّدة، أو لأن الأطراف لا تبدي جاهزية كافية لحلول دائمة، أو لأن الوساطات متسرّعة وصاحبة مصالح وراغبة في القفز على اعتبارات تاريخية وقانونية هي في أساس النزاعات. فمن السعي إلى إنهاء حرب أوكرانيا، إلى وقف الحرب على غزّة، إلى بتّ الخلافات حول البرنامج النووي الإيراني.. يبدو تحقيق الهدف النهائي ممكناً وضرورياً، لكن الطريق إليه أطول مما كان متصوّراً.
أظهرت المحاولات الأميركية لإنهاء حرب أوكرانيا أكثر من استحالة، وأبرزها: أولاً، حصر الصراع بين روسيا وأوكرانيا للعمل على اتفاق ثنائي يحتكم إلى نتائج الحرب من دون اعتراف صارم بمرجعية القوانين الدولية وما تحظره أو تجيزه. وثانياً، عدم وضوح الضمانات السياسية والأمنية اللاحقة بما يُبقي وقفَ إطلاق النار بعيداً عن تأسيس سلام حقيقي دائم لأوكرانيا ومحيطها. وثالثاً، استبعاد أميركي - تؤيّده موسكو ضمناً - للأطراف الأوروبية التي تعتبر أن حرب أوكرانيا أكّدت لها صواب قلقها على أمنها وعلى مستقبل «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) الذي كان عنوان الالتزام الأميركي ليس فقط بأمنها بل أيضاً بالنظام الأمني الدولي. ورابعاً، تهميش البحث بين «الحلفاء الغربيين» في خريطة المصالح الاقتصادية والجيو استراتيجية، ما يوحي بالتباعد في ما بينهم، وبالتالي يجعل من إنهاء الحرب سبباً للتنازع لا للتوافق.
كانت موافقة الولايات المتحدة وإيران على التفاوض بهدف التوصّل إلى اتفاق نووي جديد موضع ترحيب دولي وإقليمي، فالخيار البديل يتمثل بعمل عسكري خططت إسرائيل لتنفيذه إذا توفّر لها ضوء أخضر وتنسيق ومشاركة أميركيين. كان الظن أن الرئيس دونالد ترامب حسم قراره في هذا الشأن، لكن خيار التفاوض كان دائماً على الطاولة رغم أن تجربة إدارة جو بايدن مع طهران لم تكن مشجعة. لا تزال المفاوضات في بداياتها، ورغم وجود دوافع موضوعية قوية للاتفاق لدى الطرفين (طهران تتوق للتخلص من أثر العقوبات على اقتصادها، وواشنطن تريد مكاسب استثمارية ولا تميل إلى إشعال حرب في المنطقة.. إلخ)، إلا أن محاولات التشكيك والتعطيل بدأت ولا يبددها سوى الوضوح والشفافية من جانب الطرفين المتفاوضين، خصوصاً بالنسبة إلى «سلمية» البرنامج النووي الإيراني أو إلى الأهداف الحقيقية بعيدة المدى لأميركا. فالغموض لم يعد بنّاءً، واستمراره قد يفضي إلى صراع واسع لا يريده أحد في المنطقة.أما الحرب على غزّة فانتهت عملياً منذ شهور طويلة، ويمكن إنهاؤها «رسمياً» في اجتماع واحد للوسطاء. وأما إطالة الحرب فتقترب بها إلى «الإبادة الجماعية» والتهجير النهائي للسكان، أي إلى ما لا يقبله أي قانون دولي أو ضمير إنساني. أصبحت إسرائيل أسيرة «الأهداف التعجيزية» التي حددتها لنفسها، وأصبحت «حماس» أسيرة الانتحارية التي فرضتها على نفسها وعلى الشعب الفلسطيني. لا يمكن أن يُحسم المأزق الحالي إلا بقرار أميركي تاريخي يعترف بالشعب الفلسطيني وحقوقه على أرضه، أما السكوت على الاحتلال الإسرائيلي وتمكينه من طرد الشعب والاستيلاء على الأرض فيستحيل أن يصنع أي سلام دائم.
تواجه مساعي إنهاء الحروب على الدوام صعوبات وعقبات، فتتعثّر مراراً وتستهلك وقتاً غالباً ما يكون من دمٍ ودمارٍ ومعاناة إنسانية، لكن عندما تغلب الاعتبارات الأيديولوجية على الإرادة السياسية ينعدم الأمل في أي وساطة.


*كاتب ومحلل سياسي - لندن