تتوالى الأحداث العبثية في إدارة ترامب بصفة يومية، لدرجة أن بعض الأمور الغريبة، ولكنها بالغة الدلالة، تمر مرور الكرام في خضمّ الضجيج. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ما حدث في الثامن من أبريل الجاري في البيت الأبيض، حيث قرر الرئيس الأميركي، في خضم حربه التجارية المستعرة، أن الوقت قد حان لتوقيع أمر تنفيذي لدعم تعدين الفحم.

ووفقاً لما نقلته وكالة أنباء «رويترز»، أكد الرئيس دونالد ترامب، محاطاً بعمال مناجم الفحم الذين يرتدون خوذات واقية، والذين يمثلون قوة عاملة انخفض عددها إلى نحو 40 ألفاً من 70 ألفاً خلال العقد الماضي، رغبته في إحياء صناعة مهجورة وهي إعادة عمال المناجم إلى العمل، مشيراً إلى أنهم لن يكونوا سعداء إذا تم منحهم وظائف أخرى، لأنهم يحبون وظيفتهم في تعدين الفحم. إنه لأمر جدير بالثناء أن يكرّم الرئيس الرجال والنساء الذين يعملون بأيديهم.

لكن عندما يُخصّ عمال مناجم الفحم بالثناء بينما يحاول في الوقت ذاته إلغاء تمويل تطوير وظائف التكنولوجيا النظيفة من ميزانية الدولة، مع ملاحظة أن صناعة طاقة الرياح الأميركية وظفت نحو 130 ألف عامل في عام 2023، بينما وظّفت صناعة الطاقة الشمسية 280 ألف عامل في نفس العام، مما يُشير إلى أن ترامب عالق في أيديولوجية يمينية متصلبة لا تعترف بوظائف التصنيع الأخضر كوظائف «حقيقية». فكيف لمثل هذا التوجّه أن يجعل بلدنا أقوى؟

! إن إدارة ترامب الثانية لا تركز على رؤية حول كيفية تهيئة أميركا للقرن الحادي والعشرين، وعندما عاد ترامب إلى البيت الأبيض، كان رأسه لا يزال مُمتلئاً بأفكار من سبعينيات القرن الماضي، حيث شن من هناك حرباً تجارية من دون حلفاء أو استعدادات جادة، ولهذا يُغيّر تعريفاته الجمركية بصورة شبه يومية - من دون فهم لمدى تعقيد الاقتصاد العالمي الحديث، حيث تُجمّع مكونات المنتجات من دول متعددة. ثم يُدير هذه الحرب وزير تجارة يعتقد أن ملايين الأميركيين يتوقون بشدة ليحلوا محلّ العمال الصينيين «الذين يُثبّتون مسامير صغيرة لصنع هواتف آيفون»،. إلا أن هذه السياسة على وشك أن تُطال تداعياتها كل مواطن أميركي، حيث إن مهاجمة ترامب لأقرب حلفائنا في كندا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، بل وأكبر منافس لنا، الصين، في الوقت نفسه الذي يُظهر فيه تفضيله لروسيا على أوكرانيا، وتفضيله للصناعات الطاقة المُدمّرة للمناخ على الصناعات المُستقبلية، من دون اعتبار للكوكب، يؤدي كل ذلك إلى خسارة فادحة في الثقة العالمية بأميركا.

ويعني ذلك أن حلفاءنا الديمقراطيين سوف يتوقفون عن شراء سندات الخزانة الأميركية كما كانوا من قبل. لذا، على أميركا أن تقدم لهم أسعار فائدة أعلى وهو ما سيمتد تأثيره إلى اقتصادنا بأكمله.

كما أن سياسات ترامب سوف تؤدي إلى فقدان حلفائنا الثقة في مؤسساتنا، فكما ذكرت صحيفة «فاينانشال تايمز» يوم الاثنين الماضي، شرعت المفوضية الأوروبية في إصدار هواتف محمولة وأجهزة كمبيوتر محمولة عادية لبعض الموظفين المتجهين إلى الولايات المتحدة لتجنب خطر التجسس، وهو إجراء كان يقتصر تقليدياً على الرحلات إلى الصين، بما يعني أن المفوضية الأوروبية لم تعد تثق بسيادة القانون في الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، أصبح الكثيرون في الخارج يقنعون أنفسهم وأطفالهم، بأن الدراسة في أميركا لم تعد بالفكرة الجيدة، لأنهم لا يعرفون متى قد يُعتقل أبناؤهم تعسفياً، ومتى قد يُرحّل أفراد عائلاتهم إلى سجون السلفادور.

إن تقليص كل تلك الأمور، التي تشمل قدرتنا على جذب المهاجرين الأكثر نشاطاً وروحاً ريادية في العالم، وهو ما جعلنا مركزاً للابتكار في العالم؛ وقوتنا على استقطاب حصة غير متناسبة من مدخرات العالم، وهي ما مكنتنا من العيش فوق قدراتنا لعقود؛ وشهرتنا في احترام سيادة القانون، قد يؤدي مع مرور الوقت إلى أميركا أقل ازدهاراً، وأقل احتراماً، وأكثر عزلة. وقد يتساءل بعضهم، أليست الصين لا تزال تستخرج الفحم؟ نعم، لكنها تفعل ذلك ضمن خطة طويلة الأمد للتخلص منه تدريجياً والاستعانة بالروبوتات في أداء الأعمال الخطرة والمستنزفة لصحة عمّال المناجم.

وفي عام 2015، قبل عام من تولي ترامب الرئاسة، كشف رئيس الوزراء الصيني آنذاك، لي كه تشيانغ، عن خطة نمو مستقبلية بعنوان «صنع في الصين 2025»، تبدأ بسؤال جوهري حول محرك النمو للقرن الحادي والعشرين، حيث استثمرت بكين استثمارات ضخمة في مكونات ذلك المحرك لتتمكن الشركات الصينية من الهيمنة عليه محلياً ودولياً. وشملت تلك المكونات الطاقة النظيفة، والبطاريات، والمركبات الكهربائية والسيارات ذاتية القيادة، والروبوتات، والمواد الجديدة، والأدوات الآلية، والطائرات بدون طيار، والحوسبة الكمومية، والذكاء الاصطناعي.

ويُظهر أحدث مؤشر لقاعدة بيانات «نيتشر» أن الصين أصبحت «الدولة الرائدة عالمياً في إنتاج الأبحاث في قواعد البيانات في مجالات الكيمياء، وعلوم الأرض والبيئة، والعلوم الفيزيائية، وتحتل المرتبة الثانية في العلوم البيولوجية وعلوم الصحة». إلا أن ذلك لا يعني أن الصين ستتجاوز الولايات المتحدة، إذ إنها ترتكب خطأً فادحاً باعتقادها بأن بقية العالم سيسمح لها بقمع طلبها المحلي على السلع والخدمات إلى أجل غير مسمى، حتى تواصل حكومتها دعم الصناعات التصديرية ومحاولة توفير كل شيء للجميع، تاركةً الدول الأخرى تعاني من فراغٍ اقتصادي واعتمادية عليها. إن بكين بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادها. غير أن تهديدات ترامب المستمرة وفرضه المتقطع للرسوم الجمركية لا يمكن اعتبارهما استراتيجية، لاسيما في مواجهة الصين في الذكرى العاشرة لمبادرة «صنع في الصين 2025».

لا يمكن إنكار أن الصين أنشأت محركاً اقتصادياً يمنحها خيارات. والسؤال المطروح لبكين ولبقية العالم هو: كيف ستستخدم الصين كل الفوائض التي حققتها؟ هل ستستثمرها في المزيد من خطوط السكك الحديدية عالية السرعة والطرق السريعة ذات الستة مسارات إلى المدن التي لا تحتاجها؟ أم ستستثمر في المزيد من الاستهلاك والخدمات المحلية مع عرض بناء الجيل القادم من المصانع وخطوط الإمداد الصينية في أميركا وأوروبا بهياكل ملكية مناصفة؟ نحن بحاجة إلى تشجيع الصين على اتخاذ الخيارات الصحيحة.

*كاتب أميركي.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويرك تايمز»