في ظل وضوح الواقع الجديد بأن الولايات المتحدة تقلّص مساعداتها الخارجية للدول النامية بشكل كبير، بدأت مناقشات طارئة بين الحكومات والمنظمات الخيرية ومؤسسات الصحة والتنمية العالمية.
وتتمحور هذه النقاشات حول سؤال محوري: من سيسد هذه الفجوة؟
في العام الماضي، ساهمت الولايات المتحدة بنحو 12 مليار دولار في قطاع الصحة العالمية، وهي الأموال التي استخدمت في تمويل علاج فيروس نقص المناعة البشرية (إتش آي في HIV) والوقاية من الإصابات الجديدة، بجانب توفير اللقاحات ضد شلل الأطفال والحصبة والالتهاب الرئوي للأطفال، وتوفير المياه النظيفة للاجئين، فضلاً عن اختبارات وأدوية الملاريا.
أما ثاني أكبر جهة تمويل بعد الولايات المتحدة، فهي مؤسسة غيتس، التي أنفقت جزءاً بسيطاً من هذا المبلغ، إذ بلغت ميزانية قطاع الصحة العالمية لديها في عام 2023 نحو 1.86 مليار دولار فقط.
ويقول الدكتور نتوبيكو نتوسي، الرئيس التنفيذي لمجلس البحوث الطبية في جنوب أفريقيا: «الفجوة التي ملأتها الولايات المتحدة لا يمكن لأي طرف آخر تعويضها بسهولة».
وكانت المساعدات الأميركية تُقدَّم عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس إيد USAID)، التي قامت إدارة ترامب الجديدة إلى حد كبير بتفكيكها، إلى جانب وكالات حكومية أخرى، مثل المعاهد الوطنية للصحة (إن آي إتش NIH)، التي تواجه أيضاً تخفيضات كبيرة في منح البحوث الصحية.
ويقول الدكتور نتوسي إن البعض يرى أن دولاً أخرى، لا سيما الصين، قد تحاول شغل الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة، بينما يأمل آخرون أن تتدخل المؤسسات الخيرية الكبرى مثل مؤسسة غيتس ومنظمة أوبن فيلانثروبي البحثية لسد النقص.
وتحمل تلك المحادثة الأهمية الأكبر في أفريقيا حيث تذهب 85% من المساعدات الأميركية في مجال الصحة العالمية إلى برامج عاملة في الدول الأفريقية.
وبالنسبة لدول مثل الصومال، حيث كانت المساعدات الأميركية تشكل 25% من ميزانية الحكومة، أو تنزانيا، حيث كانت الولايات المتحدة تموّل غالبية نظم الرعاية الصحية العامة، فإن الخسارة كارثية. وبالنسبة للمنظمات الصحية العالمية الكبرى، فإن الوضع لا يقل خطورة.
وقد انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من منظمة الصحة العالمية (WHO)، التي تسعى حالياً إلى خفض ميزانيتها بمقدار 500 مليون دولار لعامي 2026-2027 لتعويض سحب التمويل الأميركي.
ويقول نتوسي: «معظم جيراننا في القارة كانوا يعتمدون بشكل كامل على الولايات المتحدة في تأمين الأدوية المنقذة للحياة لمكافحة الأمراض المستوطنة. ولا أعتقد أن معظم الحكومات ستتمكن فجأة من توفير الموارد الكافية لمواجهة هذا التحدي. لذلك، أعتقد أن العواقب ستكون مدمرة، حيث ستزداد الوفيات بين الأفارقة بسبب أمراض يمكن الوقاية منها».
وتعتبر الولايات المتحدة أيضاً هي أكبر مانح لكل من تحالف «غافي» للقاحات، الذي يزود أفقر بلدان العالم باللقاحات الأساسية، وللصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، حيث يُلزم الكونجرس الأميركي الحكومة بتقديم هذا الدعم. إلا أنه بالاستفسار عن مدى التزام الولايات المتحدة بهذه المؤسسات المتعددة الأطراف، بما يتضمن صندوق مكافحة الأوبئة، صرّح متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية بأن البرامج تخضع حالياً لمراجعة شاملة لتقييم مدى توافقها مع المصالح الوطنية، مؤكداً أن التمويل لن يستمر إلا للجهات التي تستوفي هذا المعيار.

لا توجد مؤشرات على أن الدول الكبرى الأخرى مثل أعضاء مجموعة السبع (G7) أو الاتحاد الأوروبي ستزيد إنفاقها لتعويض النقص. بل إن دولاً مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا والدول الاسكندنافية خفضت جميعها مساعداتها الخارجية. في حين تقدمت بعض الدول المانحة الجديدة لدعم منظمة الصحة العالمية، بما يشمل المملكة العربية السعودية وكوريا الجنوبية، إلا أن حجم إنفاقهما لا يزال ضئيلاً للغاية مقارنة بالمبالغ التي كانت تساهم بها الولايات المتحدة.
ومن بين الجهات غير الحكومية المتوقعة، يُعد البنك الدولي الأقدر على تقديم دعم طويل الأمد لتمويل نفقات القطاع الصحي. ومع ذلك، لم يُصدر البنك حتى الآن أي تصريحات واضحة بشأن خططه في هذا الشأن. وقد يتمكن البنك من تقديم حلول تمويلية مبتكرة للدول الأكثر تضرراً من توقف المساعدات الأميركية، مثل مبادلة الديون بتمويل الرعاية الصحية، مما يمنح الدول المثقلة بالديون بعض المرونة المالية لتعويض النقص في التمويل الصحي. غير أن هناك عقبة رئيسية، وهي أن الولايات المتحدة تعد أكبر مساهم في البنك الدولي، ما يعني أن إدارة ترامب سيكون لها نفوذ كبير على أي قرارات تتعلق بهذه الاستثمارات.
وتتركز معظم النقاشات المتعلقة حول من قد يسد الفراغ الذي خلّفته الولايات المتحدة على الصين، إذ أنها تستثمر بقوة في مشاريع البنية التحتية في الدول الأفريقية، لا سيما في الدول الغنية بالموارد المعدنية أو التي تمتلك موانئ استراتيجية.
وحسبما يقول جا إيان تشونغ، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية في جامعة سنغافورة الوطنية: «هناك أسباب وجيهة تدفع الصين للتحرك في هذا الاتجاه. فهي ترى المساعدات الخارجية كأداة للقوة ناعمة في تنافسها مع الولايات المتحدة، تماماً كما فعلت واشنطن عند تأسيسها لوكالة التنمية الدولية (USAID) خلال ذروة الحرب الباردة. تسعى الصين إلى استغلال مساعداتها لكسب مزيد من الدعم من قبل الدول النامية داخل الأمم المتحدة».
ورغم أن المساعدات الصينية جاءت بشكل أساسي على شكل قروض لمشاريع البنية التحتية، إلا أنها تشمل أيضاً دعماً لمجالات متنوعة. وجاءت استجابة الصين للمساعدات التنموية الغربية من خلال طرحها برنامجها الخاص بالمساعدات التنموية في عام 2021 تحت اسم «مبادرة التنمية العالمية». وتشمل هذه المبادرة تمويلاً بقيمة ملياري دولار لعدة مشاريع مثل تطوير الإنتاج الحيواني في إثيوبيا ومكافحة الملاريا في غامبيا وزراعة الأشجار في منغوليا، إلى جانب مشاريع أخرى.

وتعاني المؤسسات الخيرية، العاملة بالفعل في مجال الصحة العالمية، من تدفق هائل للطلبات من منظمات جُمّدت أموالها.
وتقول شيلا ديفيس، الرئيسة التنفيذية لمنظمة «شركاء في الصحة»، وهي منظمة غير ربحية تعمل مع الحكومات المحلية لتوفير الرعاية الصحية للمجتمعات في البلدان النامية: «لقد تحدثت مع بعض المؤسسات، وقد قالوا جميعاً إنهم يتعرضون لوابل من الطلبات من جهات تصرخ طلباً للمساعدة 'ساعدونا، ساعدونا، ساعدونا'، وأعتقد أنهم يحاولون سد الثغرات الصغيرة».
وتساءلت قائلة: «إذا كان من الممكن لجهود الإنقاذ الجزئية أن تغطي فقط 20% مما كانت تدفعه الولايات المتحدة، فما الذي ينبغي على الجهات المانحة الجديدة إنقاذه؟ هل نختار إنقاذ برنامج واحد بالكامل وترك البرامج الأخرى؟ أم ما هي أفضل استراتيجية؟
وتأتي مؤسسة غيتس في مقدمة المؤسسات التي تتلقى نداءات الاستغاثة طلباً للمساعدة، والتي حذرت الجهات المستفيدة من منحها بأنها لا تستطيع سد الفجوة التمويلية، فإلى جانب تمويل برامج الصحة العالمية، تدعم المؤسسة أيضاً الأبحاث الصحية وتعد مساهماً رئيسياً في تحالف «غافي» للقاحات.
وقال روب نابورز، مدير مؤسسة غيتس في أميركا الشمالية، عبر البريد الإلكتروني: «لا توجد أي مؤسسة - أو مجموعة من المؤسسات - يمكنها توفير التمويل أو القدرة البشرية العاملة أو الخبرة أو القيادة التي قدمتها الولايات المتحدة تاريخياً لمكافحة الأمراض الفتاكة والتصدي للجوع والفقر حول العالم».
ماذا عن الحكومات الأفريقية؟ تواجه الحكومات الأفريقية ضغوطاً هائلةً من مواطنيها لتحمل مسؤولية التمويل الصحي الذي كانت توفره الولايات المتحدة. وقد تصدّرت تلك القضية جدول أعمال اجتماع وزراء الصحة في القارة خلال قمة الاتحاد الأفريقي الشهر الماضي.
وعلى مدار 24 عاماً منذ أن تبنّى الاتحاد الأفريقي ما يُعرف بـ إعلان أبوجا، الذي التزمت بموجبه 42 دولة بإنفاق 15% من ميزانياتها على الصحة، لم تحقق هذا الهدف سوى دولتين فحسب، ولمدة عام أو عامين على الأكثر، بينما يقل متوسط الإنفاق الصحي في الدول الأفريقية عن نصف هذه النسبة.
وفي نيجيريا، دعا الرئيس إلى اجتماع طارئ لمجلس الوزراء لتقديم خطة تعالج العجز في الميزانية، ووافق البرلمان الشهر الماضي على تخصيص 200 مليون دولار إضافية للميزانية الوطنية. إلا أن هذا المبلغ لا يغطي حتى نصف قيمة الـ 512 مليون دولار التي قدمتها الولايات المتحدة لقطاع الصحة في نيجيريا عام 2023.
ومن جانبه، أوضح وزير الصحة النيجيري، الدكتور محمد باتي، أن ما يقرب من 28 ألف عامل صحي في البلاد كانوا يتقاضون رواتبهم جزئياً أو كلياً من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي تكفلت أيضاً بتغطية ثلاثة أرباع تكلفة الأدوية وأدوات الفحص لـ1.3 مليون نيجيري مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV).
وتوقع  أن يؤدي انتهاء المساعدات الأميركية إلى تسريع ما وصفه بـ«إعادة التوازن» في أفريقيا، وقال إن: «العالم قد تغير خلال العشرين عاماً الماضية، ولدينا الآن جهات فاعلة أخرى مثل الصين، الهند، البرازيل، المكسيك، وغيرها».


*صحفية كندية متخصصة في شؤون الصحة العامة

 ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»