حين التقيتُ الدكتور أحمد زويل في نيويورك، كان هناك شخص معروف يجلس بالقرب منّا، ولما سألتُه عنه قال لي إنه وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت ماكنمارا، هو معنا في اجتماعات مجلس الإدارة اليوم. كنتُ أعرف اسم ماكنمارا بالفعل، وأعرف دوره في حرب فيتنام. قامَ الدكتور زويل بتقديمي له.
ولما عدنا لحديثنا، قلتُ للدكتور زويل: وما هو مجلس الإدارة الذي يجمع عالماً كبيراً مع وزير دفاع؟.. قال لي الدكتور زويل: إننا أعضاء في مجلس إدارة أكبر شركة تأمين في العالم، إذ يصل حجم أعمال الشركة إلى (250) مليار دولار الآن (2005).
في مجلس الإدارة حين يكون هناك نقاش بشأن الاستثمار في كوريا الجنوبية مثلاً، أنا أتحدث عن مستقبل العلم والطب، وماكنمارا عن مستقبل الأمن، ومعنا أحد حائزي نوبل في الاقتصاد يتحدث عن مستقبل الاقتصاد، وهكذا. وبعد الاستماع للأعضاء السبعة في الموضوع الواحد، تكون معظم الجوانب واضحة قبل اتخاذ القرار. هكذا أصبح الاقتصاد وأصبحت الإدارة متخصصة ومعقدة في عالم اليوم. فهناك مستويات التضخم، وأسعار الفائدة، والتوترات الجيوسياسية، وسياسات المصارف المركزية، وحركة الأسهم والسندات، وخرائط الإفلاس، وهرولة الأموال الساخنة. وهناك أيضاً أسعار الطاقة والذهب، والحروب التجارية والرسوم الجمركية، والرقمنة والعملات المشفرّة، ثم إن هناك الإطار القانوني المحلي والدولي المعقد لذلك كله. كم هو صعب علم الاقتصاد وعلوم المالية، وما يزيد الأمر تعقيداً دخول السياسة والأيديولوجيا، وصراع المدارس الاقتصادية، وتباين النتائج في الدول والمجتمعات، على الرغم من اتباع السياسة نفسها.
تأتي كل هذه المكونات وغيرها في عالم يئن من نحو (318) تريليون دولار من الديون، بحسب «معهد التمويل الدولي» في فبراير 2025، مع استمرار صعود مؤشر عدم اليقين في النظام العالمي. وسط ذلك كله كيف يمكن للفقيه الديني أن يكوّن رأياً شرعياً إزاء هذه القضايا بالغة الصعوبة وشديدة التغير؟ ولطالما كنتُ مذهولاً وأنا أشاهد بعض الفقهاء ممن يفتون في الاقتصاد، ويقولون هذا حلال وهذا حرام.. من دون معرفة بالاقتصاد.
بالطبع فإن بعض من يتحدثون لا يعرفون علوم الدين نفسها بالقدر الكافي، ولكن حتى مع التمكن المعرفي بشؤون الدين، فإن التمكن المعرفي بشؤون الاقتصاد يبقى صعباً للغاية. لقد اهتم المفكرون المسلمون عبْر التاريخ بدراسة الاقتصاد، والإفتاء في الدين على أساس المعرفة بحركة المال والتجارة والأملاك والعقود.
وهناك العديد من العناوين في هذا الصدد، مثل كتاب «الخراج» لأبي يوسف صاحب «أبو حنيفة»، الذي عاش في القرن الثاني الهجري، وكتاب «الأموال» لأبي عبيد البغدادي الذي رحل في الربع الأول من القرن الثالث الهجري، وهناك في القرن الثامن الهجري كتاب المقريزي «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، وهو كتاب مهم في دراسة الأزمات الاقتصادية ودورة النقود.. ثم إن هناك كتاب العلامة ابن خلدون في القرن (13) الميلادي الذي أخذ منه آدم سميث في «ثروة الأمم» في القرن الثامن عشر. وفي العقود الأخيرة طوّر بعض الفقهاء «علم المقاصد».
لكن الكثير من التحديات لا تزال تواجه الفقيه حين يدلي برأيه في الاقتصاد، ذلك أن سطوة أفكار جماعات الإسلام السياسي على جوانب من الفتوى تحت دعوى أنها تمثّل الاقتصاد الإسلامي الصحيح، وكذلك استخدامها لحركة الأموال لدعم أنشطتها مع إعطاء غطاء شرعي لتلك المصالح، وكذلك العطاء المالي الكبير لرجال دين غير مؤهلين للخوض في قضايا معقدة لا يُتقنها إلاّ كبار المتخصصين.. هي كلها تمثل تحديات كبيرة أمام الفقيه الاقتصادي.
لكن ثمّة أمر طيب في ذلك وهو اختلاف الفقهاء، وتنوع الفتاوى في المسألة الاقتصادية الواحدة، ما يعطي مساحة للتيسير ورفع الحرج وقضاء مصالح الناس. إن أثر الدين على القرارات الاقتصادية للناس كبير، وتعد فتاوى فوائد البنوك المثال الأكبر على ذلك، ومن الضروري أن يلم الفقيه الاقتصادي بالفقه والاقتصاد معاً. لا سبيل إلى الصواب إلاّ بالعلم.. أو الاعتذار الفقهي الشهير: لا أدري.
*كاتب مصري