لم أتوقع أن تركز أول معركة كبرى لإدارة ترامب على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). لكن في ضوء ما حدث، يبدو الأمرُ منطقياً تماماً، لأن هذه الوكالة تقع في تقاطع بين النقد التقليدي المحافظ للإنفاق الحكومي والنقد الشعبوي الجديد لأيديولوجية طبقة المهنيين.وفي الحجة اليمينية التقليدية، تكمن المشكلة الأساسية للحكومة في أن إنفاقها عرضة للهدر والاحتيال وإساءة الاستخدام. ويُنظر إلى المساعدات الخارجية على أنها هدر بشكل خاص لأنها لا تعود بالفائدة على دافعي الضرائب الأميركيين، كما أنها معرّضة بشكل خاص لسوء الاستخدام عندما تتدفق إلى دول تديرها حكومات فاسدة تسعى إلى إعادة توجيه الأموال الأميركية لأغراض الإثراء الذاتي.
أما في الحجة الشعبوية، فتكمن المشكلة الرئيسية مع الحكومة في أنها وقعت تحت سيطرة التقدميين الأيديولوجيين، الذين توفر لهم حتى الأهداف الرسمية التي تبدو محايدةً غطاءً لتعزيز الليبرالية الاجتماعية وقضايا الوعي. ونظراً لأن جزءاً كبيراً من عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية يشتمل على مكون ثقافي صريح، حيث يهدف إلى الدفاع عن القيم الأميركية وإلى تمويل المشاريع التي تحركها الأفكار، فإنها تشكل هدفاً مناسباً تماماً لهذا النوع من النقد. وليس هذا النقد الشعبوي بالجديد؛ فمنذ الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب، ظل العديد من المحافظين متشككين تجاه الليبراليين ذوي الميول الإنسانية وفاعلي الخير في وزارة الخارجية.
لكن قوة هذا النقد وتأثيره زادا بشكل حاد منذ حقبة أوباما، حيث اجتاحت ثورةٌ ثقافيةٌ المؤسساتِ الخيريةَ والجامعات التي ترتبط بأعمال المؤسسات الحكومية. وذلك ما يجب أن يدركه الليبراليون الذين ينددون بالحرب اليمينية على المساعدات الخارجية: فالأمثلة المحددة على التوسع الأيديولوجي، والتي يسلط الضوءَ عليها إيلون ماسك وبعض الجمهوريين، تعكس تحولا عاماً شهده الجميع على مدار العقد الماضي، حيث أصبحت المؤسسات التي كانت تتمتع بحياد ظاهري وميل ليبرالي متواضع أكثرَ أيديولوجيةً بشكل واعٍ، وأكثر ميلا نحو اليسار بشكل متعمد. وهذه مشكلة خاصة لمؤسسة مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي من المفترض أن تمثل الولايات المتحدة حول العالم. فإذا بدأتَ في افتراض أن القيم الأميركية هي مجرد قيم تقدمية، فلا ينبغي لك أن تتفاجأ عندما يفقد المحافظون إيمانَهم بالمهمة.
وإذا حاولتَ تنفيذ الثورة، فلا تتفاجأ عندما تواجه رد فعل عكسياً. لكن المشكلة بالنسبة لأولئك الذين يقودون هذا الرد العكسي مزدوجة. أولًا، هناك إغراء بين الشعبويين لتخيل أن الوكالات الحكومية لم تكن فقط متأثرة بالأفكار التقدمية، بل إنها في الواقع مَن اخترعت «اليقظة»، وأن تتبع تدفقات أموال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية عبر المخططات البيانية يمكن بطريقة ما أن يؤدي إلى حرمان النخبة الليبرالية بأكملها من التمويل، وهذه إحدى النظريات التي يروج لها إيلون ماسك.وهذا خطأ، وهو مرتبط بانزلاق أعمق يظهر في الخطابات اليمينية، من نقد كيف شوهت التقدمية عمليات النفوذ الأميركية إلى فكرة أنه من السيئ للحكومة الأميركية أن تحاول التأثير على العالم على الإطلاق. والواقع أن انتقاد الحكومة فيما يتعلق بالمساعدات الخارجية، رغم صحته فيما يتصل بإخفاقات بعض البرامج، كان مبالغاً فيه على العموم. فالمبلغ الذي ننفقه على الجهود الإنسانية صغير جداً بحيث لا يمكن اعتباره مجالاً رئيسياً لإهدار الميزانية، كما أن فوائده تكاد تبرر هذا الإنفاق بكل تأكيد. بعض هذه الفوائد مجرد مكافآت على الفضيلة.
فقد أثار نائب الرئيس جي دي فانس جدلاً عبر الإنترنت من خلال حديثه عن «ترتيب الحب» (ordo amoris)، أي التسلسل الهرمي للالتزامات الذي يتطلب منا أن نهتم أولا بمجتمعاتنا قبل أن نُعطي الأولويةَ للاحتياجات البعيدة على حساب الواجبات المباشرة. وهذا نقد قوي لبعض أشكال السياسات الليبرالية الحديثة، مثل السماح لطالبي اللجوء المشكوك فيهم بإرهاق شبكات الخدمات الاجتماعية المصممة للمواطنين الأميركيين.
لكن إنفاق عشرات المليارات على المساعدات الخارجية في سياق ميزانية تقارب 7 تريليونات دولار هو في الواقع الطريقة التي ينبغي أن تعمل بها أولويات قوة عظمى ثرية. ثم إن هناك الفوائد الاستراتيجية. فطالما أن أميركا ما تزال قوة عالمية ذات بصمة إمبراطورية، ينبغي لنا أن نحرص على الظهور بمظهر أكثر إحساناً من منافسينا الصينيين والروس. لكن هذا الإحسان يتم هدره عندما تتشابك الأعمال الخيرية مع المطالب الأيديولوجية التقدمية.
غير أن العمل الخيري نفسه، مثل شبكات الوقاية من الملاريا وبرامج مكافحة الإيدز، ما يزال استثماراً حكيماً. إن هذا هو الموقف الرسمي لإدارة ترامب، والتي تعد بإعادة تنظيم جهودها في مجال المساعدات الخارجية للتركيز على الجوانب الإنسانية. لكن هناك انقسام داخل اليمين حول ما إذا كان الهدف من السياسة الخارجية لترامب هو «إعادة ضبط» الإمبراطورية الأميركية، باستخدام ضبط النفس وإعادة التوازن للحفاظ على موقع مهيمن في عالم متعدد الأقطاب، أم أنه ينبغي أن نتراجع إلى محيط أميركا الشمالية، دون أن نكون انعزاليين تماماً ولكن في حالة تراجع كبير.
أعتقد أن وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي يتولى حالياً إدارة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالإنابة، ينتمي إلى المعسكر الأول، أي المعسكر المؤيد للتعديل وليس التراجع. لكن ما سيفعله الآن مع الجهود الإنسانية لأميركا سيكون اختباراً جيداً لمعرفة ما إذا كانت استراتيجية ترامب هي إعادة التوازن، أم أن حركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماجا) قد تفضل السماح لإمبراطوريتنا بالزوال!
روس دوثات*
*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»