في السياسة كل شيء ممكن إلا المساس بالثوابت الوطنية، وللأسف تمارس بعض التيارات الكذب والباطنية السياسية والمناورة البراغماتية لتصل إلى نجاح ما تراه هدفاً سياسياً لها حتى ولو جاء على حساب المصلحة الكبرى لمجتمعها وشعبها. ولطالما حظيت القضية الفلسطينية باهتمام عربي كبير يحرص على موقف ثابت وموحد منذ أن تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في 28 مايو 1964.

والعرب كانوا ولا يزالوا دوماً معها ومع حقوق الشعب الفلسطيني بالكامل، ويحرصون على مساندته من أجل نيل حريته واستقلاله وإنهاء الاحتلال. ومنذ انشق الفلسطينيون على بعضهم عام 2006، واشتد الصراع بين «فتح» و«حماس» وبعدما سيطرت «حماس» على قطاع غزة، فإنه بغض النظر عن الأخطاء التي اقترفها الطرفان لعدم احتواء الأزمة وحلها ودرء الفتنة في مهدها، بادرت المملكة العربية السعودية جاهدة ومخلصة لاحتواء الخلاف، آنذاك قام الملك الراحل المغفور له عبدالله بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه، إلى السعودية وطلب (المتخاصمين) أن يتعاهدا في بيت الله الحرام، ويوقعان اتفاقية التفاهم (وثيقة اتفاق مكة) بتاريخ 8 فبراير 2007م، ولكن حين عاد الطرفان إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، استمرت حالة الانقسام وواصلت «حماس» السيطرة على غزة، وطغت المصالح الشخصية التي تغلبت على مصلحة الشعب الفلسطيني المتضرر من هذا الخلاف والانقسام، ولايزال الفلسطينيون يعانون من هذا التمزق والانشقاق الذي أضعف قضيتهم.

والآن وبعد 15 شهراً من حرب غزة وما طال القطاع من تدمير ودعاوى التهجير،، ورغم الشقاق الفلسطيني- الفلسطيني، أصدرت الدول العربية بيانات متتالية أولها المملكة العربية السعودية، استنكاراً وشجباً وإدانة ضد مقترح تهجير الفلسطينيين من غزة. والآن المشاورات جارية لانعقاد القمة العربية بالقاهرة من أجل قضية ومستقبل فلسطين والتصدي للتهديد بتهجير أهل غزة من ديارهم. وبعدما تكبد سكان قطاع غزة كل هذه التضحيات، وتعرضوا للقتل والكوارث والمآسي، نجد أن حركة «حماس» تهتم بتحالفاتها الخارجية مع قوى إقليمية غير عربية تذهب إليها تطلب منها الود والرضى، وتقدم لها السمع والطاعة. ما هذا الجنون الجامح والتطرف المنحاز من جناح «حماس» التي تجنح بعيداً عن السياق العربي وضد قضيتهم أصلاً.

وكيف نفسر هذا الانجراف باتجاه الخطأ بهذه الظروف الصعبة المعقدة الحساسة، التي تتطلب التضامن العربي ولملمة الموقف وتداوي الجراح وتجاوز الخلافات والصمود والوقوف أمام تحالف قوي يضم (ترامب ونتنياهو)، بعد تصريحاتهما المستنكرة والمستهجنة من قبل العرب والمسلمين التي استفزتهم هذه التصريحات المدانة من الجميع، مما جعل الموقف العربي يتوحد أمام هذا الهيجان الهمجي المنحاز الذي أدانته أيضاً الدول الصديقة ذات المصداقية والاعتدال. بينما نرى فصيلاً من أهل القضية نفسها يهرول عكس المسار وعكس الاتجاه، ويرتمي بأحضان من لا يكترث بمصير أهلهم وأشقائهم! هذا التصرف لم نستطيع استيعابه مهما صمتنا أو تجاهلنا من أجل الصالح العام، هذا السلوك ينم ويفسر أنه خداع وتخلي عن العروبة، وتغليب رؤية حزبية ضيقة فقط من أجل ممارسة السلطة، والنتيجة تمييع القضية والتشويش عليها وتعقيدها وجعلها أكثر تأزماً، والتمرد على كل منظومة الثوابت العربية التي عرفناها وتعلمناها من تراثنا العربي، الذي يؤكد روح التضامن من خلال المثل القائل: (أنا وأخي على ابن عمي...وأنا وابن عمي على الغريب).

يبدو أن روح الانقسام عن السياق الفلسطيني لدى «حماس» والحرص على استمرار التحالفات الخارجية على حساب الوحدة الفلسطينية، يعكس غياب الرؤية الاستراتيجية والتمترس حول مصلحة حزبية ضيقة، لا تراعي الصالح الفلسطيني العام.

*كاتب سعودي