قدمت حكومة رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، ميزانيتها الحادية عشرة، والتي تهدف إلى تعزيز الاستهلاك، الذي يعد المحرك الرئيسي للاقتصاد الهندي. وعلى الرغم من أن الهند ما تزال من بين أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، فإنها شهدت بلا شك تراجعاً طفيفاً في النمو الاقتصادي. وبينما يظل هذا مصدر قلق، فإن الحل الأساسي لهذه المشكلة هو دفع عجلة الاستهلاك، وهذا ما تسعى إليه الميزانية الجديدة، وهي الأولى التي تقدمها حكومة مودي في ولايتها الثالثة. لا شك في أن النمو الاقتصادي في الهند قد تعثر.
فبعد سنوات من النمو بمعدل 8%، تراجع هذا النمو العام الماضي، ومن المتوقع أن ينخفض أكثر خلال العام الجاري. ويرجع ذلك إلى ركود الدخول، وارتفاع التضخم، ونقص الوظائف بالنسبة للملايين الذين يستعدون لدخول سوق العمل. لذا، لم يكن أمام الحكومة سوى خيار الإعلان عن إعفاءات ضريبية بالنسبة لملايين من الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة التي تعاني البطالةَ. وإدراكاً لحجم البطالة، أعلن وزير المالية الهندي عن زيادة في حدود الإعفاء من ضريبة الدخل لتخفيف العبء عن دافعي الضرائب من الطبقة الوسطى.
كما تم الإعلان عن تعديلات على شرائح ضريبة الدخل الأخرى، الأمر الذي من شأنه أن يترك المزيدَ من الأموال في أيدي الفئات الأقل ثراءً. ومن الواضح أن هذه الخطوة تهدف إلى تعزيز الاستهلاك الحضري، الذي انخفض إلى ما دون الاستهلاك الريفي.وفي الآونة الأخيرة، أصبح إنفاق الطبقة الوسطى يواجه ضغوطاً، حيث يعمد سكان المدن الهندية إلى ترشيد نفقاتهم بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، لا سيما في المدن الكبرى، مثل مومباي ودلهي، حيث تكون تكلفة كل شيء من تناول الطعام في الخارج إلى إيجارات الشقق أعلى بكثير مقارنة بالمدن الأصغر والمناطق الريفية. وتُظهر دلائلٌ تراجعَ معنويات المستهلكين في المدن الهندية الكبرى طوال العام، حيث شهدت قطاعات متنوعة، مثل مبيعات البسكويت ذات العلامات التجارية الكبرى ومبيعات السيارات الاقتصادية والدهانات المنزلية.. إلخ، انخفاضاً في الطلب.
ويعزو الاقتصاديون هذا الانخفاض إلى ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض نمو الأجور وزيادة التضخم. ويحظى الاستهلاك الحضري باهتمام كبير من صانعي السياسات والاقتصاديين الهنود، حيث تساهم المناطق الحضرية بنسبة 63% من الناتج المحلي الإجمالي للهند، مما يجعلها محركاً رئيسياً للنمو.
وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى الهندية لم تتوقف عن الإنفاق، فإنها لم تعد تزيد من استهلاكها، بل تفضل إعادة تنظيم ميزانياتها الشهرية. وربطت بعض شركات السلع الاستهلاكية، مثل «نستله» و«بريتانيا» و«دابور»، انخفاض مبيعاتها بتباطؤ الاستهلاك الحضري. ويتوقع البنك المركزي الهندي نمواً بنسبة 7.1% للسنة المالية الحالية التي تنتهي في مارس 2025، مستنداً إلى تحسن الطلب الريفي والنمو المستمر في قطاع الخدمات. وقد شهد الاستهلاك الريفي انتعاشاً بفضل موسم الرياح الموسمية الجيد، وزيادة الأموال المتدفقة إلى أيدي المزارعين والفقراء الريفيين من خلال دعم المحاصيل وبرامج التحويل النقدي، إلى جانب انخفاض تكاليف المعيشة مقارنةً بالمدن.
لكن السؤال هو: إلى أي مدى يمكن للاستهلاك الريفي، الذي يعتمد على قاعدة أضعف، تعويض تراجع الطلب الحضري؟ كما ركزت الميزانية هذا العام على الإنفاق من أجل البنية التحتية كوسيلة أخرى لدفع النمو وخلق الوظائف وتعزيز الاستهلاك.. إذ أعلنت الحكومة عن زيادة في هدفها للإنفاق على البنية التحتية من 11.1 تريليون إلى 11.2 تريليون روبية. كما اقترحت تقديم قروض من دون فائدة للولايات لتمكينها من زيادة إنفاقها على مشاريع البنية التحتية.
وفي إشارة إلى مدى جدية حكومة مودي في معالجة تراجع الاستهلاك، قرر البنك المركزي الهندي خفض سعر الفائدة الرئيسي للمرة الأولى منذ خمس سنوات، حيث صوتت لجنة السياسة النقدية على خفض سعر إعادة الشراء (الريبو) بمقدار 25 نقطة أساس إلى 6.25%. واتفاقية إعادة الشراء، والمعروفة أيضاً باسم اتفاقية «الريبو»، أو اتفاقية البيع وإعادة الشراء، هي شكل من أشكال الاقتراض قصير الأجل خاصة في الأوراق المالية الحكومية.
وقد جاءت تلك الإجراءات في وقت يشهد فيه الاقتصاد الهندي تباطؤاً، حيث وضعت التقديرات الأولية للسنة المالية 2025 - 2026 معدل النمو الحقيقي للهند عند 6.4%، وهو أقل من معدل 8.2% خلال العام السابق، كما أنه أدنى من التوقعات الحالية للبنك المركزي الهندي عند 6.6%. والسؤال المطروح هو ما إذا كان إعلان الميزانية سينجح في تحفيز الاستهلاك ومنع المزيد من التباطؤ في النمو الاقتصادي؟
ووفقاً للتقارير الإعلامية، فقد أعرب محافظ البنك المركزي الهندي عن ثقته في نمو الاقتصاد الهندي، مؤكداً أن تحقيق نمو بنسبة 7% أو أكثر لا يزال ممكناً. وبالتالي، فرغم ردود الفعل الإيجابية على ميزانية هذا العام، يبقى أن نرى ما إذا كانت ستنجح بالفعل في تعزيز الاستهلاك، مما قد يسهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي في البلاد.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي