في حيّ مانهاتن الراقي بمدينة نيويورك، قطعتُ العديدَ من الشوارع مشياً على الأقدام. كان ذلك بصحبة العالم الكبير الدكتور أحمد زويل. وعند مركز روكفللر الشهير قال لي الدكتور زويل: هل تعلم أن ثقافة التبرع هي ثقافة أساسية في الولايات المتحدة؟

وعلى الرغم من أن المجتمع هنا رأسمالي تماماً، بل هو عنوان الرأسمالية العالمية إلاّ أنّ العمل التطوعي وتخصيص جزء من دخل الأفراد والشركات للعمل الخيري.. هو من معالم الحياة الأميركية. ثم واصل الدكتور زويل: من المؤكد أن سياسات الضرائب تساعد على ذلك، لكن الرأسماليين المثقفين لديهم شعور عميق بالمسؤولية الاجتماعية لرأس المال. تذكرتُ ذلك وأنا أطالع ما نشرته الصحف عن مذكرات الملياردير الأميركي بيل جيتس، والتي تروي قصةَ البداية، وشفرة الانطلاق من المصدر إلى المليار.

أصبح بيل جيتس حديث العالم في أربع محطات كبرى: المحطة الأولى.. حين أصبح في عام 1998 أصغر ملياردير في التاريخ. والمحطة الثانية.. حين دشن مؤسسةَ جيتس الخيرية وتبرع بأكثر من (60) مليار دولار من ثروته، وقال إنه أبلغ أبناءَه أنه سيترك لهم الأموال المناسبة، لكنه سيتبرع بأغلب ثروته. ورغم أنهم لن يكونوا فقراء، إلاّ أنهم لن يكونوا أثرياء للغاية. والمحطة الثالثة.. حين جرى اتهامه من قبل كثيرين حول العالم بالتآمر على البشر، واستثمار جائحة كورونا من أجل زرع شريحة داخل اللقاحات لمراقبة حياة الناس، من أجل السيطرة عليهم والتخلص من كثيرٍ منهم، وفي عدة دول منها هولندا تم رفع دعاوى قضائية تحمل هذا الادعاء.

والمحطة الرابعة.. حين قررت شركة مايكروسوفت التي أسسها، تخصيصَ (80) مليار دولار للسيطرة على عالم الذكاء الاصطناعي، بعد أن أدرك بيل جيتس أنّ مايكروسوفت سبق أن ارتكبت أكبر أخطائها حين تركت المركز الثاني في إنتاج أنظمة التشغيل المحمولة لنظام آندرويد، وهو ما أدى لخسارة مايكروسوفت نحو (400) مليار دولار، وحسب جيتس فإنه في سوق البرمجيات يفوز المنتصر بكل شيء. والآن.. وبعد مرور عقود على المليار دولار الأول، يتحلّى بيل جيتس بحكمة كبيرة، وقد راح ينفق معظم ثروته في مساعدة الآخرين، نافياً أنه يسعى لمراقبة الناس، ومتهماً روبرت كينيدي الابن بتضليل المجتمع. ويقول: إن الإنفاق على اللقاحات أهم من الإنفاق على السفر إلى المريخ. ثم إنه راح يتحدث عن أهمية الفراغ في حياة الإنسان، وأهمية دخوله المكتبات وشراء الكتب، والجلوس مع النفس للتفكير العميق. وهو يرى أيضاً ضرورةَ حظر استخدام وسائل التواصل لمن هم دون سن السادسة عشرة كما تفعل أستراليا. لكن أهم ما في رحلة بيل جيتس هو إيمانه بأن دور المال ليس الاكتناز والتوريث وإنما دعم الآخرين، ويعود بتلك الصفات لديه إلى والدته التي زرعت فيه حبَّ الخير، وأن الثروة حين تجيء تأتي معها مسؤولية مشاركتها مع الآخرين.

ياله من درس مهم في فلسفة الحياة، لا يجب أن ينافسَ المرءُ نفسَه في جمع المال، بل يجب أن يدرك أن فيه نصيباً معلوماً للسائل والمحروم، وكذلك للمدارس والجامعات والمستشفيات. إن دعم الآخرين ليس واجباً فحسب، وإنما أيضاً فيه لذّة المساعدة، وروعة التبرع، ومتعة العطاء.

*كاتب مصري