أشعل مشروع «ريفييرا الشرق الأوسط» في قطاع غزّة جدلاً سيستمر طويلاً، والأرجح أنه سيبقى متأرجحاً بين الواقع والوهم. ومنذ انطلاقه كمجرد أفكار للرئيس دونالد ترامب لم يحظَ بالتفاف حوله من جانب أعضاء إدارته، علماً بأنهم جميعاً من صقور السياسة والمؤيدين لإسرائيل بالمطلق. فحتى أقرب القريبين من الرئيس، ولا سيما مستشاره للأمن القومي، صرّحوا علناً بأن «اقتراحه» يهدف إلى الضغط على الدول العربية المجاورة «للتوصّل إلى حلٍّ خاصٍ بها». وخلافاً لما بات مألوفاً بأن يسارع «الجمهوريون» إلى تأييد ترامب في دعمه لإسرائيل، واجه العديد من أقطابهم تصريحاته بالنقد والتشكيك، من قائل بأنه اقتراح «إشكالي» أو بأنه «تطهير عرقي» و«غير قابل للتطبيق» إلى التحذير من نشر جنود أميركيين على أرض غزّة. وإلى ذلك فقد اتضح أن المقترح لم يُدرس داخل الإدارة، ولم يجرِ تبنّيه كـ «خطة» أو سياسة أميركية جاهزة للتنفيذ، ولذا حرص البيت الأبيض في بعض التصويبات على طمأنة «الجمهوريين» بأن الولايات المتحدة «لن تموّل» هذا المشروع.
 ولا شيء يمنع أن يُصار إلى تسويق اقتراح ترامب تدريجياً باعتباره مشروعاً ينطوي على فرص للشركات ورجال الأعمال، خصوصاً إذا ما استمر الترويج له على أنه «سياحي استثماري»، من دون نسيان أنه يطلّ على رقعة بحرية غنيّة بالنفط والغاز. فكل تفصيل فيه يبدو «جميلاً ورائعاً» بعبارات ترامب. ثم إن المبررات متوفّرة: دمار شامل، مقوّمات حياة منعدمة للسكان (ما يجعل من نقلهم/ تهجيرهم عملاً «إنسانياً»/ خيرياً)، وإعادة إعمار معقّدة وغير مضمونة التمويل وتتطلّب 10 إلى 15 سنة على الأقلّ.. لذا يبدو تحويل قطاع غزّة إلى منطقة تطوير عقاري أفضل فكرة يمكن أن تُقنع المستثمرين بأنهم سيحققون أرباحاً مؤكّدة.
لكن، لكي تصبح الفكرة «مقبولة» لا بد أن تكون أرض غزّة سائبة وموجودة في الـ «لا مكان»، ليس لها أصحاب ولا تاريخ ولا هوية. كرّر ترامب أنها «مدنٌ مدمّرة» بلا أي إشارة إلى مَن دمرها، أي إلى إسرائيل التي أصبحت جهة متهمة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكنها هي الشريك الرئيسي في اقتراح «الريفييرا». وبما أن «احتلالاً إسرائيلياً دائماً لغزّة» سيكون مرفوضاً دولياً وعربياً، ومثله خطط الاستيطان، كذلك «التوسيع (الضروري) لمساحة إسرائيل بالنظر إلى إنجازاتها» (بحسب ترامب). لكل ذلك وغيره جاءت الفكرة الحاسمة بأن تصبح غزّة «ملكية طويلة الأمد» للولايات المتحدة، كي تغدو عملياً «ملكية لإسرائيل». وبهذه الصفة المزيفة يريد المالك «الجديد» للأرض إخراج السكان منها وتوزيعهم هنا وهناك، ويدعو دولاً إلى تمويل بناء مساكن «جميلة» لهم على أرضها أو أراضي دول أخرى غير قادرة على تحمّل التكاليف!
رغم أن هذا المشروع يتماشى مع خطط إسرائيل وقادة اليمين المتطرّف فيها، بل يذهب أبعد منها، إلا أنه يتطلّب الكثير من الانتهاكات والتجاوزات، سواء للقوانين الدولية (التي كانت الولايات المتحدة رائدة في صوغها وفرضها) أو لطموحات السلام التي يتبنّاها ترامب نفسه. هذه الاعتبارات لا يتوقف الرئيس الأميركي عندها، فالمهم أن تتحقق مصالح إسرائيل وأميركا وما على العالم سوى أن يتكيّف مع هذا النمط الجديد من الاستعمار. أصوات دولية كثيرة حذّرت من أن مشروعه «وصفة للتطرّف» وأصرت على «حل الدولتين» كبديل. وفي إسرائيل كتب وزير سابق أن الذين يعتقدون بأن ترامب يحقق «أحلام اليمين المتطرّف بتوزيع الفلسطينيين على 22 دولة عربية، لا يفهمون أن هذه رؤية ليس لها أي احتمال للتحقق».

*كاتب ومحلل سياسي - لندن