يؤمن ملايين الأميركيين بأن هناك كيانات غير مرئية تتحكم في سياسة البلاد - كعناصر غامضة للدولة العميقة، يُزعم أن هذه العناصر تسيطر على الأحداث، وتخفي السموم في طعامنا ومياهنا. ساعدت هذه النظريات في دفع شخصيات مثل دونالد ترامب وروبرت ف. كينيدي الابن إلى الواجهة بوعودهم بتوفير الشفافية وإنقاذنا من هذه التهديدات.
تُظهر بيانات الاستطلاعات أن 41% من الأميركيين يعتقدون أن الدولة العميقة موجودة، وأكثر من نصفهم - 54% - يشتبهون في تورط عدة جهات في اغتيال جون ف. كينيدي عام 1963. لكن شكوكهم ليست بلا أساس. فقد أعطى التاريخ الأميركيين العديد من الأسباب لعدم الثقة في حكومتهم. لقد كذب قادتنا بشأن حرب فيتنام، وكانت الذريعة لغزو العراق قائمة على الأكاذيب. كما ألحقت بعض شركات الأدوية الكبرى أضراراً جسيمة بنا من خلال منتجاتها.
ومع ذلك، في حين أن العناوين الرئيسية تؤكد أن نظريات المؤامرة أصبحت سائدة، فإن نظرة أقرب إلى البيانات وتاريخ بلدنا تُظهر صورة أقل تطرفاً. نحن نحمل مجموعة واسعة من المعتقدات، بدءاً من نظريات المؤامرة الراديكالية في أحد الأطراف إلى المخاوف المشروعة بشأن إساءة استخدام السلطة في الحكومة والشركات الكبرى. لا يوجد دليل على أن الدولة العميقة قد سيطرت على العالم -أو تخطّط لذلك- ولكن أصول هذه النظرية متجذرة في التاريخ. في مقال لمجلة «ساينتفك أميركان،»، تشير المؤرخة «كاثرين أولمستيد» وخبير الاستخبارات «سيمون ويلمِتس» إلى مسار طويل من السرية الحكومية، التي عزّزت انعدام الثقة، بما في ذلك العمليات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية خلال الحرب الباردة، التي تجاوزت المواقف الدفاعية.
تستشهد أولمستيد وويلمِتس بمقال شهير عام 1964 للمؤرخ «ريتشارد هوفستاتر» بعنوان «النمط البارانويدي في السياسة الأميركية». ويعود ذلك إلى عام 1790 عندما نشر الأميركيون نظريات مؤامرة حول المجتمع السري المعروف باسم «المتنورين» (Illuminati).
يصف هوفستاتر هذا النوع من جنون الارتياب بأنه تفكير يأخذ المخاوف المشروعة ويضخمها خارج سياقها. استهدف الناس في البداية المهاجرين الكاثوليك، ثم تحول التركيز إلى الشيوعيين. في الماضي، جاءت فضائح الأنشطة السرية المخادعة غالباً من الصحفيين الاستقصائيين المشهورين، وكانت تحظى بتأييد اليسار السياسي.
ومؤخراً، أصبحت محاربة الدولة العميقة قضية يتبناها اليمين، وتوسعت لتشمل موظفي الحكومة العاديين غير المرتبطين بالأنشطة السرية، مثل العاملين في وكالة حماية البيئة وإدارة الغذاء والدواء. جعلت الجائحة الأمور أكثر سوءاً. يقول «ستيفان ليواندوفسكي»، عالم النفس في جامعة بريستول: «يميل الناس إلى أن يكونوا أكثر عرضة لنظريات المؤامرة عندما يشعرون بعدم السيطرة أو بالخوف أو بالتهميش». وكان الناس بالفعل خائفين وغير متأكدين مما يحدث. أصبح الخوف مسيّساً مع الجدل حول تدخل الحكومة المفاجئ والثقيل.
تم إغلاق الشركات والمدارس قسراً، وفرضت أوامر بارتداء الكمامات والتطعيمات، وطُلب من الناس البقاء في منازلهم إلى أجل غير مسمى. شعر بعض الأميركيين بالقلق من تلقي لقاح جديد نسبياً وواجهوا ارتباكاً بسبب المعلومات غير الواضحة أو المتناقضة أحياناً. زاد بعض المسؤولين الحكوميين والصحيين الأمور سوءاً من خلال نشر معلومات مضللة. خلال جلسات تأكيد تعيينه في مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي، استغل كينيدي، مرشح ترامب لقيادة وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، تلك المخاوف، متعهداً بـ«شفافية جذرية».
وزعم أن انتقاده المستمر للقاحات على مدى سنوات كان بدافع رغبته في الحصول على مزيد من البيانات حول سلامتها. ومع ذلك، كما أشار العديد من أعضاء مجلس الشيوخ، هناك بالفعل أكوام من هذه البيانات. يقول ليواندوفسكي، الذي درس نظريات المؤامرة، إن المزيد من البيانات نادراً ما يجلب الرضا. «سيظل هناك دائماً شيء يعتقد الناس أنك تخفيه».
لم يكن من الضروري أن يكون الشخص من دعاة نظريات المؤامرة ليتساءل عن كيفية تأكد العلماء من أن تفشي الفيروس لم يبدأ بحادث مختبري. كما أنه من الطبيعي أن يكون الناس فضوليين بشأن تلك الوثائق السرية المتعلقة باغتيال جون ف. كينيدي، والتي أمر الرئيس ترامب بالإفراج عنها. يميل أصحاب نظريات المؤامرة إلى اعتبار أي فجوة في المعلومات دليلاً على وجود مؤامرة معقدة بين وكالة الاستخبارات المركزية والمافيا والحكومة الكوبية في اغتيال كينيدي.
قد تكون هذه قفزة غير منطقية، ولن يرضيهم أي كم من البيانات. لكن أولئك الذين يقفون في موقع أقل تطرفاً من الشك لا يزالون يريدون معرفة ما تم تصنيفه ولماذا. المطالبة بمزيد من الشفافية حول عمليات الحكومة، والمزيد من المعلومات حول الأدوية وما يدخل في طعامنا، ليست أموراً غير معقولة إلا عندما تصبح متطرفة. لقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في دفع الناس إلى فقاعات صدى يتبادل فيها الطرفان السخرية - حيث يسخر طرف من الآخر إما لمطاردته الأشباح أو لكونه أعمى عن التهديدات الحقيقية. ومع ذلك، فنحن لسنا منقسمين بقدر ما قيل لنا.
* كاتبة متخصّصة في قضايا العلوم.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»