يقف الحوار الحضاري بصفته أحد أبرز المفاهيم الحديثة التي درجت الدول على إنزالها على أرض الواقع لتفعيل القوى القيمية والثقافية في المجتمع، والاستفادة منها في بناء مجتمع متنوّع ومتعدد ومتسامح يحترم جميع الثقافات؛ إذ يَجمَعُ مفهوما الحوار الحضاري والتسامح الاجتماعي بين الاعتراف بتعدد الثقافات والأفكار والتجارب الإنسانية، وبين وجود تجربة بشرية محددة، لها أهلها وأفرادها الذين نشؤوا وتربوا عليها، مع مراعاة ما تتمتّع به هذه التجربة من خصوصية في التشكّل والأثر.
وتتجلّى أهمية الحوار الحضاري في كونه وسيلة فعّالة لتجاوز التوترات التي قد تنشأ بين الثقافات المختلفة؛ إذ يسهم في ترسيخ قيم الاحترام المتبادل وفهم الآخر؛ وهو ما ينعكس إيجاباً على العلاقات الاجتماعية داخل الدولة الواحدة أو بين الدول المختلفة؛ فالحوار الحضاري ليس مجرد أداة للتواصل فحسب، بل هو نظام قيمي وأخلاقي يدفع نحو توطيد أواصر التعاون والتفاهم في عالم يشهد تنامي ظاهرة العولمة.
ويشكّل الحوار الحضاري دعامة أساسية لتحقيق قيم التسامح الاجتماعي والتعايش الإنساني المستدام؛ إذ يجمع بين الاعتراف بتنوع الثقافات والأفكار وبين تعزيز قيم الانفتاح والتفاهم بين البشر؛ ففي عالَم يشهد تطورات متسارعة وتداخلًا متزايداً بين المجتمعات، بات الحوار الحضاري ضرورة ملحّة لإرساء أسس تعايش إنساني مبني على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك.
ويمثّل الحوار الحضاري أداة فعّالة لفهم الآخر، وتجاوز الاختلافات الثقافية والفكرية التي قد تشكل حواجز أمام تحقيق الانسجام الاجتماعي. وعن طريق هذا الحوار تُعزَّز قيم التسامح بصفتها وسيلةً للتفاعل الإيجابي بين الأفراد والجماعات؛ ما يؤدي إلى بناء مجتمعات أكثر تماسكاً واستقراراً؛ إذ إن التسامح الناتج من الحوار الحضاري لا يقتصر على القبول السلبي للتنوع، بل يشمل تبادل المعارف والخبرات والإثراء المتبادل، الذي يثري التجربة الإنسانية كلها.
كما يُعَدُّ الحوار الحضاري محفزاً رئيسياً لتحقيق التعايش الإنساني المستدام؛ إذ يسهم في إيجاد حلول جماعية للتحديات المشتركة، مثل التغير المناخي، والأزمات الإنسانية، والتنمية الاقتصادية؛ فعندما تنخرط المجتمعات في حوار حضاري صادق، يصبح بالإمكان تسخير التنوع الثقافي والعرقي قوةً دافعة نحو الابتكار والإبداع؛ ما يؤدي إلى تبادل المعارف والخبرات بين الثقافات وتوليد حلول جديدة للتحديات المشتركة. كما يسهم هذا الحوار في بناء مجتمع أكثر انفتاحاً ومرونة، وقادراً على مواجهة الأزمات وتجاوزها بفضل تعدد روافده الثقافية.
ويتطلب تحقيق التعايش الإنساني المستدام إدماج الحوار الحضاري في المناهج التعليمية، وبرامج التوعية المجتمعية، والسياسات الثقافية؛ إذ من شأنه أن يعزز من قوة المجتمعات واستقرارها، ذلك أن الحوار الحضاري ليس مجرد أداة للتواصل، بل نهج شامل لبناء عالم أكثر تسامحاً وتعاوناً، يعكس القيم المشتركة للبشرية ويحتفي بتنوعها.
والجدير بالذكر أن الحوار الحضاري يوفّر بيئة مواتية لترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، عبْر بناء جسور الثقة والتفاهم بين الشعوب المختلفة؛ فالاعتراف المتبادل بقيمة الآخر واحترام خصوصياته الثقافية يسهمان في تقليل النزاعات والتوترات، ويُرسّخان السلام الاجتماعي على المدى الطويل.
ختاماً، يظل الحوار الحضاري المفتاح الحقيقي لبناء مستقبل يعمه السلام والتعاون؛ إذ تتكامل الثقافات وتتفاعل بما يحقق الخير المشترك للجميع، حيث يُعَدُّ الاستثمار فيه استثماراً في الإنسان، وبناء قيمته الاجتماعية والثقافية والإنسانية.
*أستاذ مساعد في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية