من منطلق كون الضربات التي شَلَّت قوة «حزب الله» قادت إلى وجود اتفاق دولي على ترك نظام «البعث» السوري يواجه مصيره في الانهيار والسقوط، فإن ذلك لابد وأن يكون حاملاً لمتغيرات كبيرة في الشرق الأوسط، ونقترض هنا بأن القادم هو اضمحلال وتلاشي الميلشيات كأحد العوامل الرئيسية في عدم استقرار المنطقة.
يأتي انهيار الميلشيات باعتبارها من الفاعلين من غير الدول عبر ثلاثة محاور، أول هذه المحاور وأهمها، امتناع الدول الداعمة عن تقديم المساندة المادية والفكرية والجغرافية والأيديولوجية للميلشيات، وصولاً لمحاربتها، فلولا هذا الدعم من الدول لما كانت فاعلة في العلاقات الدولية، على سبيل المثال، سيشهد الشرق الأوسط مساراً متزايداً نحو الدولة القومية التي لا تتجاوز على سيادة الدول عبر العقيدة أو المذهب أو دعم فئات اجتماعية لتحقيق أهدافها. ولكن هذا الأمر لن يحدث إلا عبر تعزيز «الوستفالية»، وقطع استراتيجيات إدارة الصراعات بالشرق الأوسط. فاستراتيجيات إدارة الصراعات- وليس حلها- لابد أن تتخلى عنها دول كبرى، وتحديداً الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وأن يتم إنتاج مسارات للتهدئة والاستقرار برعاية دول إقليمية كتركيا وإيران مع دول خليجية عربية فاعلة كالسعودية والإمارات وقطر.
هذا الاضمحلال للميلشيات لا يتناقض مع حقيقة كون هناك متغيرات اجتماعية داخل دول بعينها مؤثرة على العلاقات الدولية، على سبيل المثال لا الحصر، بروز اليمين المحافظ في أوروبا الغربية والتلاقي مع روسيا في كبح الليبرالية الغربية، ومن الأمثل الابتكارات والاختراعات.
العامل الثاني المتزامن في اضمحلالها الميلشيات، هو نيل الحقوق الاجتماعية والقومية والجغرافية والسياسية، وذلك سيكون نابعاً من زيادة الأنظمة اللامركزية والفيدرالية والحكم الذاتي في الشرق الأوسط، وهذا المسار ينطبق على الشعب الفلسطيني وهويات قومية أخرى. ولعل القضية الكردية في حالة سوريا تعتبر مؤشراً للمستقبل، والتي مازالت تركيا تريد التحكم بمستقبل الأكراد في الدولة السورية بإعادة سوريا إلى النظام المركزي، فأنقرة المناهضة للهوية الكردية تصر على اعتبار وتسمية الأكراد بأتراك الجبل، وتجيد اللعبة البراجماتية مع كردستان العراق، مقابل ذلك هناك محددات ستضبط السياسة التركية مثل وجود مكاسب اقتصادية وتجارية كبيرة.
وإلى جانب تركيا، نرى بأن التحركات الإسرائيلية في سوريا لا تشجع على اضمحلال الميلشيات، وإنْ كان بدواعٍ أمنية. وللحقيقة صورة أخرى متضاربة، وهي أن المواجهات العسكرية بين إسرائيل و«حزب الله» و«حماس» كشفت خطورة فكرة الميلشيات التي تستغل المشهد السياسي، خاصة في ظل غياب الحلول واستمرار الأزمات في المنطقة.
العامل الأخير، إمكانية تأطير القومية بفلسفة وحكمة سياسية، أي جعل الدولة قائمة على فئات مهنية واجتماعية وذات مطالب خاصة بها، بعيداً عن القومية المتصادمة مع غيرها في الدولة الواحدة، فالحكمة السياسية في مقدورها خلق أطر جامعة لمختلف الهويات مثل التجار والعمال والطلاب وأصحاب المهن والقطاعات كالمزارعين والصيادين، وغيرهم من الفئات الاجتماعية كأصحاب الهمم وكبار السن، وشؤون المرأة والطفل، والطاقة والصحة والبيئة، وحصر الدين في الشؤون الاجتماعية.
*كاتب ومحلل سياسي