قام علماء يقودهم فريق من جامعة كولومبيا بتدريب نموذج على التنبؤ بكيفية تأثير الجينات داخل الخلية على سلوك هذه الأخيرة، وهو ما يمكن أن يصبح أداة قوية قادرة على تحسين فهمنا للسرطان والأمراض الوراثية، بل وتمهيد الطريق لعلاجات جينية خاصة بالخلية من أجل معالجتها.
الباحثون قاموا بتدريب أداة الذكاء الاصطناعي الجديدة، وهي عبارة عن خوارزمية أطلقوا عليها اسم «محوّل التعبير العام» أوGET، باستخدام مقاربة مشابهة لتلك التي استخدمها مبتكرو برنامج «تشات جي بي تي» اللغوي.
وإذا كان برنامج «تشات جي بي تي» قد تعلّم قواعد اللغة، فإن أداة «جي إي تي» تعلمت القواعد الأساسية التي تحكم الجينات: كيف يتم تشغيلها أو إيقاف تشغيلها مثل مفتاح الضوء، أو رفعها أو خفضها مثل جهاز التحكم في مستوى الصوت. هذه العملية المعقدة، المعروفة باسم التعبير الجيني، هي التي تحدد البروتينات التي نصنعها، وما إن كنا نصنعها بالكميات الصحيحة، وهو عمل مهم جداً بالنظر إلى أن البروتينات تؤدي دوراً في كل عمل في الجسم تقريباً - مكافحة الأمراض، والحركة، والتنفس، بل وحتى التفكير. 
ومع أن نظام «جي إي تي» ما زال في مرحلة مبكرة من التطوير، إلا أنه يمكن أن يؤدي دوراً مشابهاً لنظام «ألفا فولد 2»، وهو نظام الذكاء الاصطناعي الذي يتنبأ ببنية البروتين ثلاثية الأبعاد. ويذكر هنا ان هذه التكنولوجيا التي أحدثت تحولاً لافتاً في العلوم هي التي حازت جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2024، وتم تحديثها الآن لتصبح «ألفا فولد 3».
ويُعد تنظيم الجينات وبنية البروتين أساسيين للحياة، ويمكن لمشاكل في أي منهما أن تؤدي إلى الإصابة بأمراض.
ويقول راوول رابادان، وهو أحد مؤلفي ورقة بحثية نشرت الأربعاء في دورية «نيتشر» ومدير برنامج علم الجينوم الرياضي بجامعة كولومبيا: «إن البيولوجيا أخذت تتحول إلى علم تنبؤي»، مضيفاً «إننا نشهد ثورة في البيولوجيا حالياً».
ومن جانبه، يقول مارك جيرشتاين، أستاذ المعلوماتية الطبية الحيوية بكلية الطب في جامعة يل، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة، إن الخبراء يحاولون منذ 15 إلى 20 عاماً تقديم تنبؤات حول تنظيم الجينات، مستندين في ذلك إلى كنز من البيانات التي تم إعدادها بعناية. بيانات فحصت كل الجينات في أنواع محددة من الخلايا البشرية - خلايا شبكية العين أو الخلايا العصبية، على سبيل المثال – وقاست، من جملة ما قاست، التعبير الجيني وارتباط البروتينات الرئيسة التي تسمى عوامل النسخ.
ويقول غيرشتاين: «هذا المجال بات مهيئاً لتحقيق هذا النوع من التقدم بواسطة الذكاء الاصطناعي».
ووفقاً لمايك بازين، مدير برنامج في «المعهد الوطني لبحوث الجينوم البشري»، التابع للمعاهد الوطنية للصحة، فإن التعرف على نوع من الخلايا، ثم تقديم تنبؤات حول نوع آخر من الخلايا يمثِّل تحدياً شاقاً جداً.
ويقول: «من بعض النواحي، الأمر أشبه بقيامي بإعطاء شخص ما مجموعة من الكتب باللغة الإنجليزية»، ثم قولي له: «حسناً، إليك الآن هذا باللغة الروسية. فعما يتحدث؟»، فيقول لي: «إنني أفهم النحو والصرف والكلمات، سأقدّم تنبؤات حول هذا رغم أنه مكتوب بلغة مختلفة. فأقول: «هذا مبهر، ولكن هل تستطيع فعل ذلك؟».
العمل الذي تصفه الورقة البحثية التي نشرتها دورية «نيتشر» «يعالج بشكل مباشر أحد أهم التحديات في البيولوجيا، ألا وهو: فهم كيف يمكن للجينوم نفسه أن يقود مثل هذه السلوكيات المتنوعة في أنواع مختلفة من الخلايا»، يقول جيان ما، أستاذ البيولوجيا الحاسوبية ومدير مركز الأبحاث الطبية الحيوية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي بكلية علوم الحاسوب في جامعة كارنيجي ميلون. «ما»، الذي لم يشارك في الدراسة الجديدة، أدلى بهذه التعليقات عبر البريد الإلكتروني.
كل خلايا جسم الإنسان البالغ عددها 30 تريليون خلية أو نحو ذلك تحتوي على المجموعة الكاملة نفسها من الحمض النووي. «غير أن كل نوع من الخلايا - سواء كانت خلية عصبية أو خلية عضلية أو خلية جلدية - تعبّر عن مجموعة فريدة من الجينات»، يقول «ما». فالبشر لديهم نحو 20 ألف جين. وهذه الجينات قد يعمل بعضها في خلية شبكية العين، ولكنه قد يتوقف عن العمل في خلية جلدية.
ويقول «ما» إنه إذا كانت (الكثير من هذه القواعد التنظيمية ما زالت غير مفهومة بشكل جيد»، فإن نموذج «جي إي تي» يخطو خطوة مهمة نحو فك رموز هذه اللغة)
هذا ويَعد فهم لغة تنظيم الجينات بتحقيق فائدة كبيرة لصحة الإنسان، كما يعتقد لـ«يانغ لي»، الأستاذ المساعد في قسمي جراحة الأعصاب وعلم الجينات بكلية الطب في جامعة واشنطن في سانت لويس، ويقول «لي»: « نريد تعلم القواعد الجينية، ثم ترتيب اللاعبين الرئيسيين، وفقاً لأدوارهم في أنواع الخلايا المختلفة، لأن العديد من الأمراض البشرية تنتج عن اضطراب في تلك القواعد الجينية».
ويأمل العلماء أن يساعد هذا النموذج بطرق أخرى، مثل تطوير علاجات جينية لتصحيح طفرة - خطأ في الشفرة الجينية - تضر بنوع معين من الخلايا. مثل هذه العلاجات يجب تصمَّم بدقة حتى تستطيع إصلاح الخلايا المتضررة من المرض من دون التأثير على أنواع الخلايا الأخرى.
وفي هذا الإطار، يقول رابدان: «يمكننا تصميم علاجات جينية تقدّم جيناً يتم التعبير عنه بنوع واحد فقط من الخلايا دون غيره». وهذه القدرة على التنبؤ بالجينات التي يتم تشغيلها، أو إيقافها، أو رفعها، أو خفضها في خلايا مختلفة يمكن أن تساعد على تحديد الخلية الأصلية لمرض من الأمراض.

مارك جونسون
صحافي أميركي متخصص في الصحة والعلوم
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»