عندما نتحدث عن التعليم بصفته جوهر النهضة الوطنية ومحركها الأساسي؛ فإننا لا نشير إلى بناء مدارس أو تحديث مناهج فقط؛ بل إلى تأسيس رؤية عميقة تُشكل ملامح المستقبل. وفي ظل التغيرات العالمية المتسارعة تبرز الحاجة الملحّة إلى مخطِّطِي تعليم يملكون الأدوات والمهارات اللازمة لرسم خريطة تعليمية تستجيب لاحتياجات الحاضر، وتستشرف تحديات المستقبل. والسؤال الواجب طرحه هنا هو: هل استثمرنا بما يكفي في إعداد مخطِّطي التعليم وتدريبهم؟
وتقدم تجارب دول مثل اليابان وسنغافورة نموذجاً رائداً في هذا السياق؛ إذ كان الاستثمار في مخطِّطي التعليم أساساً لتحقيق قفزات نوعية في أنظمتهما التعليمية؛ ذلك أن مخطِّطي التعليم ليسوا مجرد إداريين، بل هم مهندسون فكريون يُعيدون صياغة أولويات التعليم، ويربطون السياسات التعليمية باحتياجات المجتمع، وطموحات القيادة، ومستجدات البحث العلمي التربوي.
ولا يتناول الحديث هنا المؤسسات التعليمية بصفتها كيانات، بل النخب البشرية القادرة على تحويل الرؤى واقعاً. ويضمن وجود مخططي التعليم استمرار الرؤية التعليمية بصرف النظر عن التغيرات الإدارية التي قد تشهدها المؤسسات؛ وذلك لأنهم قادرون على رؤية أدوار جديدة للوحدات التعليمية، وتحويل المدارس بيئات حاضنة للإبداع والابتكار؛ إذ تصبح نواتج التعلم خبرات حية تُعِدُّ الطلاب للتفاعل مع واقعهم وبناء مستقبلهم بثقة وكفاءة. وبناءً على ذلك؛ فإن الاستثمار في تلك النخب لا بد أن يركّز على بناء المهارات المطلوبة لمخطِّطي التعليم، التي تتجاوز المعرفة التربوية إلى امتلاك القدرة على التفكير الاستراتيجي لرسم رؤى طويلة الأمد، والتحليل الاستباقي لفهم التغيرات المتوقعة، والمرونة في تصميم السياسات التي تراعي السياقات المحلية مع مواءمتها للتوجهات العالمية، إضافة إلى إتقان إدارة الشراكات، وتوظيف نتائج البحث العلمي التربوي لتوجيه القرارات وصياغة السياسات التعليمية.
ويُعرِّض غياب الاستثمار في هذه الكوادر الأنظمة التعليمية لمخاطر الجمود والتكرار؛ إذ تصبح السياسات مجرد استجابات آنية، بدل أن تكون رؤىً مستقبلية. ومن هنا تأتي أهمية بناء برامج تدريبية شاملة تُعزز هذه المهارات، وتُمكّن القادة التعليميين من فَهْم العلاقة بين مخرجات التعليم، وأهداف التنمية الوطنية.
إن بناء مستقبل تعليمي مستدام يتطلب استثماراً واعياً في العقول التي تخطط له. وإذا أردنا أن يصبح التعليم قوة دافعة نحو تحقيق الطموحات الوطنية؛ فإن الخطوة الأولى تبدأ من إعداد مخططي التعليم، الذين بيدهم تحويل الطموحات إلى إنجازات ملموسة. وهذا الاستثمار ليس خياراً، بل ضرورة تُثمر أجيالاً قادرة على صياغة مستقبلها بثقة وكفاءة.
*مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الانسانية