بعد 14 عاماً من الدمار والقمع وصنوف المعاناة التي تفوق الوصف، انتهت الحرب الأهلية في سوريا نهاية مذهلة: النظام السوري انهار بشكل مفاجئ، والشعب السوري يحتفل بانتصاره الذي تحقق عبر بذل تضحيات جسام. ففي العاصمة دمشق، الشوارع التي كان يسودها الخوف في الماضي بات يسودها اليوم تفاؤل حذر. وفي الأثناء، بدأت حكومة مدنية مؤقتة تتشكل مبدِيةً براغماتية لافتة في خطواتها الأولى نحو الاستقرار. غير أنه بينما يعيد السوريون بناء بلدهم المحطم، يبدو أن واشنطن على وشك تفويت فرصة تاريخية، لأن مقاربتيْ كل من إدارتي بايدن (الحالية) وترامب (القادمة) تهددان بإهدار مصالح الولايات المتحدة في سوريا.
فمنذ سقوط النظام السوري، قلّل الكثيرون في واشنطن من آفاق ظهور دولة ديمقراطية حرة ومستقرة، وذلك عبر ربط سوريا بدول فشلت في مرحلة ما بعد انهيار الأنظمة مثل ليبيا والعراق وأفغانستان. والحال أن ذلك يتجاهل فرقاً جوهرياً: إذ خلافاً للأوضاع في تلك البلدان، فإن الانتفاضة السورية كانت حركة محلية المنشأ، انتفض فيها السوريون للقتال دفاعاً عن حقوقهم، وبعد أكثر من عقد من الكفاح، استطاعوا الإطاحة بالأسد.
السوريون عانوا الكثير ولن يهدروا هذه اللحظة عبر تكرار الأخطاء التي ارتُكبت في البلدان الأخرى. ويبدو أن الفصائل التي سيطرت الآن على السلطة في سوريا لديها قناعة بأن «رسالتها إلى الولايات المتحدة هي أن ننظر إلى ما حدث باعتباره فرصة حقيقية لإنهاء الكثير من المشاكل التي خلقها نظام الأسد، وأننا نستحق تلقي الدعم من أجل استعادة الاستقرار واستعادة الدور الجيوسياسي المهم لسوريا، والذي دفعنا ثمنه باهظاً بدماء شعبنا الحر».
غير أن المشاعر السائدة في واشنطن ما زالت ترفض هذا الواقع الجديد. فهذه سيناتور ولاية نيوهامبشر، جين شاهين، وهي العضو «الديمقراطي» رفيع المستوى الجديد في لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، وقد قالت مؤخراً: «لا يوجد أي أشخاص جيدين في سوريا». والحال أن هذه التصريحات ليست غير دقيقة فحسب، بل مهينة جداً للسوريين الذين خاطروا بكل شيء من أجل استعادة بلدهم.
والحقيقة أن الوقائع على الأرض تحكي قصة مختلفة، فالأسبوع الماضي فقط، تم تسليم السلطة السياسية إلى حكومة انتقالية مدنية. وإدراكاً منها لضرورة الاستمرارية، تعاملت تلك الحكومة المؤقتة مع بقايا إدارة الأسد من أجل ضمان استمرار الخدمات الأساسية. كما أن تواصل الحكومة مع الأقليات، بما في ذلك العلويون الذين كانوا مصدراً أساسياً لدعم الأسد، يؤكد العزم على بناء بلد شامل ومستوعب لجميع مكونات شعبه. وفي هذا الصدد، قال الدالاتي: «إننا ننظر إليهم باعتبارهم شركاء في بناء سوريا الجديدة»، مشدداً على رفض الطائفية التي استخدمها الأسد سلاحاً لعقود.
«هيئة تحرير الشام» عقدت اتفاقات مع المنظمات الكردية لتجاوز تعقيدات شمال شرق سوريا، حيث ما زالت القوات المدعومة من تركيا و«قوات سوريا الديمقراطية» الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة في حالة حرب. ومنطق هذه الفصائل بأن كل الدول الأجنبية التي لديها قوات في سوريا يمكنها التفاوض مع الحكومة الجديدة من أجل الإبقاء على وجودها هناك أو مغادرة البلاد.
كل هذه التطورات تفنّد توقعات الكثيرين القاتمة في واشنطن، فسوريا ليست بصدد الانزلاق إلى الفوضى على غرار ليبيا ما بعد القذافي أو العراق ما بعد صدّام. و14 عاماً الماضية من الاستعدادات التي قامت بها المعارضة، بما في ذلك إنشاء هياكل حكم شبه مهنية وقيادة عسكرية موحدة، ربما أخذت تؤتي أُكلها. وهي لحظة تتطلب انخراطاً أميركياً مباشراً.
بيد أن إدارة بايدن ركزت حتى الآن على لاعبين إقليميين، مثل تركيا والأردن، بينما تجنبت إلى حد كبير التعامل المباشر مع القيادة السورية الجديدة، حتى في الوقت الذي تسعى فيه معظم الدول الأخرى إلى إقامة علاقات استباقية مع الحكومة الجديدة، بما في ذلك روسيا. وفي غضون ذلك، يتجاهل تصريحُ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، والذي قال فيه إن الولايات المتحدة «ينبغي ألا تكون لها علاقة» بسوريا، المصالح الأميركية الكبيرة هناك. ذلك أن سوريا تنعم بالسلام والاستقرار يمكن أن تعالج العديد من التحديات في المنطقة، من أزمة اللاجئين إلى تجارة المخدرات. ثم إن الإطاحة بالأسد، والذي كان أحد ركائز الحلف الإيراني، أضعفت نفوذ طهران في المنطقة. وعلاوة على ذلك، فإن وجود القوات الأميركية في شمال شرق سوريا من أجل محاربة تنظيم «داعش» يُبرز المخاطر بالنسبة للأمن الأميركي.
وعليه، ينبغي للحكومة الأميركية رفع العقوبات المفروضة على الاستثمار وإعادة الإعمار التي كانت مفروضة على نظام الأسد الذي لم يعد موجوداً الآن، وتوفير المساعدات الإنسانية، وتقديم الدعم التقني. كما ينبغي زيادة الجهود الدبلوماسية الحالية من أجل إدارة التوترات العالقة بين سوريا وجيرانها.
لقد تعاملت الولايات المتحدة مع الثورة السورية لفترة طويلة باعتبارها مصدر قلق ثانوياً. والآن، وبينما ينكب السوريون على رحلة إعادة البناء الصعبة، أمام أميركا فرصة لتكون على الجانب الصحيح من التاريخ.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»