في أواخر ثلاثينيات وأوائل أربعينيات القرن العشرين، احتدم الخلاف بين الأميركيين حول ما إن كان ينبغي للولايات المتحدة الحفاظ على حيادها والبقاء بمنأى عن الحرب التي اندلعت في أوروبا، أم حمل السلاح ضد ألمانيا النازية ودول المحور الأخرى. هذا الخلافُ الوطني الحاد فرق عائلات وأصدقاء، ربما أكثر من أي خلاف آخر في ذلك الوقت. غير أن مشاعر العداء والضغينة التي خلفها الانقسام نسيت إلى حد كبير بعد أن همش هجوم «بيرل هاربور» التيار الانعزالي وأعادت التفاصيل الفظيعة التي تم الكشف عنها بخصوص «الهولوكوست» تصوير الحرب العالمية الثانية باعتبارها حرباً للحق ضد الشر.
وبعد الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، عاد الحديث مجدداً حول الانعزالية الأميركية التي اكتسبت قدراً كبيراً من جاذبيتها القديمة، لتصبح أقوى مما كانت عليه قبل أكثر من 80 عاماً، وهو ما يجعل الكتاب الجديد لـ«إتش دبليو براندز»، حول تاريخ النقاش الذي كان دائراً قبل تلك الحرب، يكتسي قيمةً خاصة.
و«براندز» كاتب أميركي غزير الإنتاج، متخصص في التاريخ الموجَّه للجمهور العام، وأستاذ بجامعة تكساس، وقد اعتمد العديدَ من الخيارات التأليفية التي جعلت سرده مميزاً، ومن ذلك قراره تجسيد النقاش من خلال لاعبَيه الرئيسيين: الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت، الذي فعل من خلال خطاباته والإجراءات التنفيذية التي اتخذها، أكثر مما فعله أي شخص آخر لدفع أميركا نحو دخول الحرب إلى جانب بريطانيا، وتشارلز ليندبرغ، الطيار الشهير الذي أصبح أبرز متحدث في تجمعات «لجنة أميركا أولاً»، وهي المنظمة الانعزالية الرائدة في تلك الفترة.
تركيز براندز ينصب بشكل رئيسي على الحجج التي ساقها كل من روزفلت وليندبرغ لصالح التدخل وضده، وكذا حجج أنصارهما. وفي هذا السياق، يأخذ المؤلف العديدَ من أقوال الانعزاليين على محمل الجد. ويقر بأنه كان لدى ليندبرغ سببٌ وجيهٌ للقول بأن الولايات المتحدة كانت وقتئذ في مأمن من غزو قوة معادية، وبأنه سيكون من الصعب تبرير القتال إلى جانب بريطانيا الإمبريالية والاتحاد السوفييتي الشيوعي، باعتباره حرباً من أجل الديمقراطية. وفضلاً عن ذلك، يحاجج براندز بأن روزفلت انتهج أسلوباً مخاتلاً مع الجمهور بشأن خطواته التدريجية وغير المباشرة في اتجاه التدخل. وبالمقابل، كانت لدى ليندبرغ رؤية بعيدة ومتبصرة حين توقع أن تضع الحربُ نصفَ أوروبا تحت سيطرة الشيوعيين، وأن روزفلت، وخلافاً لما ينص عليه الدستور، كان يعمل على تحويل خوض الحرب من مسؤولية تشريعية إلى مسؤولية تنفيذية.
ويلفت براندز إلى أن روزفلت ومرؤوسيه رفضوا في كثير من الأحيان التعامل مع هذه الحجج بجدية، وعوضاً عن ذلك، سعوا ما استطاعوا إلى تشويه سمعة ليندبرغ وغيره من النشطاء المناهضين للحرب عبر وصفهم بالانهزاميين أو أو الخونة أو الساعين لاسترضاء النازية والمدافعين عنها. غير أن براندز لا ينكر أن حجج روزفلت كانت الأفضل والأقوى عموماً. ويقول: «كان روزفلت يعتبر نفسه من أنصار (أميركا أولاً) تماماً على غرار ليندبرغ والآخرين، وكل ما هناك هو أنه كانت لديه رؤية أوضح لمصالح البلاد»، إذ كان يعلم أنه لا يمكن استرضاء النازيين، وأن شرعية هتلر لا يمكن أن تستمر إلا من خلال الحرب، وأن أميركا ستخوض حرباً ضد النازية إن عاجلاً أم آجلاً. لقد كان من الوهم تخيّل إمكانية أن تظل الولايات المتحدة بأمان «كجزيرة وحيدة في عالم تهيمن عليه فلسفة القوة»، كما قال الرئيس روزفيلت في يونيو 1940.
كما يشير براندز إلى أن روزفيلت كان يدرك أن القوة الصناعية الهائلة التي تتمتع بها أميركا كانت تعني من جملة ما تعنيه أنها تستطيع، بل ويجب عليها تدمير الدول المارقة مثل ألمانيا النازية، وبالتالي قبول وضع القوة العظمى الذي منحها إياه اقتصادُها. ووفقاً لقراءة براندز الخاصة، فإن ليندبرغ كان يعتقد أن الشعب الأميركي سينفر من التضحيات والقطيعة مع تقاليد الماضي التي قد يقتضيها مثل هذا التحول، لكنه بدلاً من ذلك «سُحر بقوة البلاد» فتبنّى «دعوةَ روزفلت إلى العظمة الأميركية».
كما يشير براندز إلى أن انعزالية ليندبرغ كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، بما يمكن تسميته اليوم نظرية تفوق العرق الأبيض. ذلك أن ليندبرغ لم يكن يرى عالَماً منقسماً بين الديمقراطية والفاشية، وإنما كان يرى الأوروبيين وأحفادهم في مواجهة بقية العالَم، الأمر الذي كان يوحي بأن ألمانيا النازية كانت حليفاً أكثر من كونها خصماً. وفي هذا الإطار، كتب يقول: «إذا ما تعرض العرق الأبيض لتهديد حقيقي، فربما يكون الوقت قد حان حينها لنضطلع بدورنا في حمايته، ونقاتل جنباً إلى جنب مع الإنجليز والفرنسيين والألمان، ولكن ليس ضد بعضهم البعض من أجل تدميرنا المشترك».
ليندبرغ كان يعتقد أيضاً أن الشعب الأميركي كان متحداً في معارضة دخول أميركا الحربَ الأوروبية، في حين كانت «عناصر قليلة ولكن قوية» تعمل على دفع البلاد دفعاً نحو المعركة. وكان ليندبرغ يعتقد أن تلك العناصر كانت تمثِّل أقلية صغيرة، «ولكنها تسيطر على معظم آليات التأثير والدعاية». ولاحقاً، وأثناء كلمة له في تجمع لـ«أميركا أولاً» في مدينة دي موين بولاية آيوا في سبتمبر 1941، قال إن اليهود يشكِّلون محور هذا الفصيل المؤيد للحرب، فأثار تصريحه ذاك انتقادات واسعة. ثم سرعان ما أدى الاستهجان الجماعي لما اعتبره كثيرون معاداةً للسامية من جانب ليندبرغ ليس فقط إلى تدمير سمعته، ولكن أيضاً إلى «تشويه سمعة الحركة المناهضة للحرب والقضاء على أي بديل معقول لرؤية فرانكلين روزفلت العولمية الداعية إلى دخول الحرب»، كما كتب براندز.
وختاماً، يشير المؤلف إلى أن طموحات أميركا التي تَعتبر العالم كلَّه مجالاً صالحاً للتنافس على النفوذ السياسي قد لا تكون مستدامة إلى ما لا نهاية، معتبراً أنه من المهم إعادة النظر في الحجج الجوهرية التي كان يدفع بها مناهضو التدخل. غير أن سرده التاريخي يسلِّط الضوء أيضاً على العتمة التي قد تتعرض لها الانعزالية الشعبوية، والتي يتعين على الديمقراطيات أن تظل يقظة حيالها.
محمد وقيف
الكتاب: أميركا أولاً.. روزفلت في مواجهة ليندبرغ إبان الحرب
المؤلف: إتش دبليو براندز
الناشر: دابلداي
تاريخ النشر: سبتمبر