ما بين إتمام الاتفاق بين «حزب الله» وإسرائيل، واندلاع الأحداث في حلب ما يثير الكثير من الهواجس ارتبطت بتهديدات علنية من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو تجاه سوريا، ومروراً بحسم العمليات في عمق حلب، والتي كانت ساحة لصراع كبير بدأ من 2017 والتي تم التفاهم بشأنها بين روسيا وتركيا إلى التهدئة، وصولاً إلى توقيع اتفاق خفض التوتر.
ومن يومها ظلت الأمور على حالها إلى أن تفجرت الأوضاع مؤخراً، وبدأ الصراع مجدداً من قبل التنظيمات المسلحة التي تمارس دوراً في الساحة السورية متفقاً عليه، وفي ظل تقاسم للسلطة وللحكم، والسيطرة، وفق مناطق النفوذ، وهو الأمر الذي أكدته تطورات الأوضاع الراهنة والمفتوحة على مشاهد عدة، وبما يؤكد أن ما يجري جزء من مخطط دولي كبير تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة روسيا و«حزب الله»، وإيران في آن واحد، وما يؤكد أن من حدد ساحة الاختيار للمواجهة الراهنة يدرك انشغال روسيا في الحرب في أوكرانيا وانكفاء إيران على حساباتها السياسية والاستراتيجية، إضافة إلى ضعف «حزب الله» في لبنان.
ومن ثم، فإن ساحة المواجهة ارتبطت بالفعل بسيناريو محكم في توقيت له دلالاته، ما يؤكد استثمار المسار الراهن في سوريا من جانب، ولبنان من جانب آخر، دفع لنقل المواجهة إلى سوريا، وربما أيضاً إلى العراق بعد قليل، فالأمر لا علاقة له فقط بسيطرة التنظيمات المسلحة على حلب وإدلب، وصولاً إلى الشمال الشرقي وسقوط حماة بقبضة التنظيمات المسلحة، والوصول إلى حمص، ما يفتح الباب أمام مدن الساحل ودمشق.
فمن دون التدخل الروسي، و«حزب الله»، والدعم الإيراني، لن يقوى النظام السوري على المواجهة بمفرده، بل سيظل يدافع عما يعرف باسم سوريا المفيدة، والتي يوجد فيها النظام السوري، ولا يريد أن يخرج منها في إطار وجود أربع مناطق للحضور الدولي والإقليمي في سوريا ما يؤكد أن سوريا مقسمة الحدود بالفعل، وأن الحدود التي رسمت بالدم ستبقي في موقعها، ولن تتغير في ظل توقعات بتغيير الحسابات السياسية والاستراتيجية بالفعل، بل وتبدل مواقف الأطراف المعنية.
فمن مصلحة إسرائيل، إقليمياً، أن تكون جبهة سوريا منشغلة بالداخل، وفي ظل تصميم إسرائيلي على ترتيب حساباتها الاستراتيجية، بل والعمل مع الولايات المتحدة لتغيير الوضع في سوريا، وفي ظل ما يدعو إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من أن إسرائيل ستغير الشرق الأوسط عبر مقاربات سياسية واستراتيجية جديدة، ومن خلال محاصرة الجانب الإيراني في سوريا لتغيير المشهد الداخلي، خاصة أن الولايات المتحدة قد تتدخل بقوة في توجيه المشهد الراهن، حتى ما بعد تولي الرئيس المنتخب ترامب مقاليد الحكم في يناير المقبل الأمر الذي سيدفع إلى الحفاظ على القوات الأميركية في سوريا، بل وإعادة تقوية مركز «قوات سوريا الديمقراطية» لمواجهة أية سيناريوهات مطروحة.
ويبدو أن هناك دلالات حول إعادة ترتيب الحسابات الأميركية، والدخول في مسار المقايضات الكبرى في سوريا مع روسيا بل وإيران، ما يؤكد الهدف الرئيس للولايات المتحدة، ومن ورائه إسرائيل في التعامل بطريقة جديدة مع المشرق بمنظور مستجد سوريا ولبنان والعراق، ومن قبل رام الله وغزة، وما يؤكد أن الشرق الأوسط القديم سيتغير كرسالة أولى من الولايات المتحدة وللأطراف السورية واللبنانية والعراقية، مع تتبع التحديات الواردة من تنظيمات تعمل في سوريا تتبع «داعش»، أو «القاعدة»، حيث صراع التنظيمات الكامن، فيما ستناور تركيا بورقة الجيش الوطني السوري، وبقوات تحتل مساحات كبيرة من الأراضي السورية، حيث ستعمل في اتجاهات منضبطة، بما في ذلك التلويح بورقة التصالح مع النظام السوري نفسه، بعد أن استعادت علاقتها بمحيطها العربي مع مصر والسعودية والامارات.
ومن ثم، فإن أي تحرك دولي أو إقليمي سينطلق في هذا الاتجاه والعمل وفق صفقة كبرى، وإعادة ترتيب الحسابات الكبرى والصغرى للأطراف الرئيسة، ومنها الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا، ما يؤكد أننا أمام سيناريوهات جديدة مفتوحة أمام المشهد السوري بكل تفاصيله المعقدة، ويدفع بقوة إلى طرح سياسات جديدة في إطار خدمة المصالح الإسرائيلية التي ستتكامل ملامحها، استناداً لرؤية أميركية ستعمل مع الرئيس الأميركي المنتخب ترامب، ومع التأكيد على ثوابت الأطراف الأخرى، بما في ذلك إيران، ما قد يؤدي إلى التغيير وفق معادلة رابح/ رابح، وبدء تفكيك شبكة العلاقات السورية الإيرانية من جانب، والسورية الروسية من جانب آخر، مع تبني استراتيجية جديدة لإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية التي قد تمثل خطراً على أمن إسرائيل في المدى الطويل.
في المجمل، ستستفيد إسرائيل من إضعاف الوجود الإيراني في سوريا، الأمر الذي سيضر بإمدادات الأسلحة الإيرانية إلى «حزب الله» في لبنان، كما ستستفيد الولايات المتحدة أيضاً إذا أجبر الروس على مغادرة سوريا مع التخوف بأنه في حال حدوث تغيير في سوريا - وفقاً للمنظور الإسرائيلي- فإن التنظيمات المسلحة التي تقودها جماعات سلفية قد تخلف تهديداً أكبر على الحدود الإسرائيلية، وهناك خطر من ظهور «داعش» جديد، أو من نشوء دولة دينية سنية متطرفة، ما يشكل تهديداً أكبر لإسرائيل، مقارنة بالنظام السوري الذي ظل، بالرغم من عدائيته لتل أبيب، محافظاً على الهدوء النسبي في الجولان.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.