تتنامى الشعبوية كظاهرة سياسية حينما تعتقد أعداد متزايدة من الناخبين أن حكومتهم باتت أداة بيد النخب وتتجاهل مصالحهم. وخلال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت الأزمة المالية بين عامي 2007 و2009 وجهود الحكومة الأميركية الرامية إلى الحؤول دون انهيار النظام المالي العالمي من بين أسباب تنامي المشاعر الشعبوية. وفي مقابلة مع ديفيد روبنشتاين، وهو كاتب ورجل أعمال ثري معروف بأعماله الخيرية، عزا الرئيس السابق جورج دبليو بوش موجة الغضب تجاه الحكومة الأميركية إلى طريقة تعاملها مع تلك الأزمة. وبدأ الانهيار في المؤسسات المالية مع انهيار سوق العقار في الولايات المتحدة. كانت البنوك، خلال طفرة قطاع العقار في السنوات التي سبقت الأزمة، تقدّم قروضاً سخية جداً لملايين المشترين الذين لم يكن مطلوباً منهم تقديم أدلة على قدرتهم على تحمل قروض عقارية كبيرة. وشجعت البنوكُ والشركات العقارية على شراء هذه الرهون العقارية «الخطرة»، فأعقبت ذلك «طفرة» في القطاع العقاري، حيث استغل المشترون القروض في أحيان كثيرة لشراء العقارات وبيعها، سعياً لتحقيق أرباح في فترة زمنية قصيرة جداً.
وعلى نحو لا مناص منه، لم تستطع هذه الطفرة الاستمرار، وحينما فقدت زخمها ارتفعت أسعار الفائدة على الرهون العقارية، ولم يتمكن العديد من المشترين من تسديد أقساطهم، فحجزت البنوك على ممتلكاتهم، ما أدى إلى انهيار الثقة في كل من سوق العقار والبنوك معاً.
ولمنع انهيار مالي، وافقت إدارة بوش على مضض على إنقاذ معظم البنوك الكبرى بأموال الحكومة الأميركية. وبهذه الطريقة، حيل دون حدوث كارثة عالمية. فأنقذ دافعو الضرائب الأميركيون البنوك والمؤسسات التي تسببت في الأزمة أصلاً. ولم تتم متابعة أي مصرفيين قضائياً. ولذا يعد كثير من الناس العاديين أن أموال ضرائبهم استُخدمت لإنقاذ أغنياء فاحشي الثراء من دون أي عواقب.
ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في غضب الكثير من الأميركيين الآثار المدمرة لصفقات التجارة الحرة التي شهدت إغلاق العديد من الصناعات في الداخل الأميركي بسبب المنافسة الأجنبية. ففُقدت الوظائف الجيدة التي لم تعد أبداً. وفي الأثناء، نما الاقتصاد الأميركي، وانتعشت الأسواق المالية. ومثّل وباء «كوفيد 19» انتكاسةً كبيرةً، لكن الأميركيين الأكثر ثراءً، وخاصة على الساحلين الشرقي والغربي، رأوا محافظهم المالية تحقق نمواً كبيراً وسط ازدهار سوق الأسهم الذي ما زال مستمراً إلى اليوم.
ومما زاد غضب العديد من الأميركيين فشل الإدارات «الديمقراطية»، و«الجمهورية» على حد سواء في إيجاد طريقة لإدارة مشاكل الهجرة غير الشرعية، والتضخم، وتفشي التشرد في المدن الكبرى، وارتفاع أنواع معينة من الجرائم، والانقسام الثقافي المرير حول الأجندات المدرسية والدين والعرق والتاريخ.. أي ما بات يعرف بـ«الحروب الثقافية».
وتُظهر البيانات المستقاة من الانتخابات العامة الأخيرة أن الجمهوريين كانوا بارعين في استغلال هذا الغضب أكثر من الديمقراطيين. ولهذا السبب، استطاع دونالد ترامب زيادة حجم الدعم الذي يحصل عليه من من عائلات الطبقة العاملة، بما في ذلك اللاتينيون وعدد كبير من الأميركيين السود الذين تضرروا جميعاً من التضخم، ويرون أن آمالهم في الأمن المالي لم تتحسن رغم نجاح إدارة بايدن في خلق أعداد قياسية من الوظائف الجديدة.
وختاماً، فإن الشعبوية الأميركية ليست حدثاً فريداً من نوعه، إذ تعكسها أعداد متزايدة من الناخبين في معظم الدول الأوروبية التي تتشارك العديد من المظالم نفسها. فالأحزاب اليمينية في الدول الإسكندنافية وهولندا وألمانيا والنمسا والمجر ورومانيا.. تحقق نتائج أفضل في الانتخابات. وبالنظر إلى الحالة الهشة للاقتصادات الأوروبية، فإن صعود اليمين سيزداد في السنوات القادمة على الأرجح. وبذلك، ستجد الإدارة الأميركية الجديدة أن لديها حلفاء داخل أوروبا أكثر مما كان عليه الحال، خلال فترة رئاسة ترامب الأولى.
*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز ناشيونال إنترست - واشنطن