في خضمّ النقاشات المستمرة بشأن إصلاح التعليم، وتطوير مناهجه، يبرز مدير المدرسة بصفته قائداً أساسيّاً، بل عنصراً محوريّاً لا غنى عنه في قيادة التحول الجوهري المطلوب، ولكنْ برغم الأهمية الكبيرة للمدير، وحيوية دوره في سير العملية التعليمية وإنجاحها؛ فإنه أحياناً ما يُقيَّد بصلاحيات محدودة تُفقِده القدرة على إحداث التأثير المطلوب في بيئة المدرسة، فتتحوّل مهمته من قيادة مؤسسة تعليمية إلى مجرد تنفيذ سياسات مركزية صارمة؛ ولهذا لا بدَّ من إعادة النظر في دور مدير المدرسة وصلاحياته، والسعي الجاد إلى تمكينه؛ لأنه لا يقلّ أهمية عن مدير أي مؤسسة أخرى؛ ذلك أن المدرسة -بمواردها البشرية والمادية وتحدياتها المتنوعة- ليست أقل شأناً من المؤسسات الاقتصادية الكبرى؛ بل هي مؤسسة تربوية ضخمة، تُبنى على كاهلها أجيال المستقبل.
مدير المدرسة ليس إداريّاً فحسب؛ بل هو قائد أكاديمي وإداري ينبغي أن يُمنح الأدوات الكاملة التي تؤهله لأداء مهمته بكفاءة عالية، فكيف لمدير أن يدير بيئة تعليمية حيوية وهو لا يملك الصلاحيات الكافية لاتخاذ قرارات مؤثرة في مسار الطلاب، أو تشكيل هيئة تدريسية مبدعة، أو ضبط برامج التعليم وفق احتياجات مدرسته الخاصة؟ إن تمكين المديرين، ومنحهم الاستقلالية الحقيقية لا يُعدان أمرين ثانويين، بل هما شرطان أساسيان لتمكينهم من أن يصبحوا صنّاع قرار في مجتمعهم المدرسي، قادرين على الابتكار، وصوغ تجربة تعليمية متفردة تتناسب مع متطلبات المدرسة.
ولإعداد قادة تعليميين مؤثرين، يجب أن توفر المنظومة التعليمية برامج تدريبية شاملة لهم، تتجاوز حدود الإدارة التقليدية، وتركّز على تطوير مهارات القيادة التحفيزية وفنون التواصل الفعال مع مختلف شرائح المجتمع المدرسي. وهذه البرامج ضرورية لإعداد مدير المدرسة ليكون قائداً أكاديميّاً وإداريّاً محنكاً يتحمل المسؤولية، ويقود مدرسته نحو التميز. ونجد في فنلندا نموذجاً مثاليّاً لهذا التوجه؛ إذ يتمتع مديرو المدارس فيها بصلاحيات واسعة تشمل اختيار المعلمين، ووضع استراتيجيات التدريس التي تناسب احتياجات الطلاب، بل إنهم يُعدون شركاء استراتيجيين في تطوير المناهج التعليمية، انطلاقاً من أن المدير هو العمود الفقري للمدرسة، مثله مثل مدير أي مؤسسة أخرى، يتحمل المسؤولية الكاملة عن النتائج الأكاديمية والتربوية، ويُحاسب على جودة العملية التعليمية ومخرجاتها.
وفي ظل هذه التجارب الناجحة نحتاج إلى إعادة الثقة بقادة مدارسنا، ومنحهم الاستقلالية والصلاحيات التي تُمكنهم من إدارة مدارسهم بمرونة، بعيداً عن التوجيهات المركزية المتعاقبة التي تعوق غالباً الابتكار، وتحصر المديرين في دائرة التنفيذ الجامدة.
لقد آن الأوان لمنح مديري المدارس الفرصة الحقيقية لقيادة التغيير، وترك الوزارات تقوم بدورها الاستراتيجي الأوسع. لِنجربْ شيئاً مختلفًا هذه المرة، ولْنُعِد بناء منظومتنا التعليمية بتأهيل قيادات مدرسية متمكنة، تستحق منا الدعم ومنحها الثقة، وتملك القدرة على تقديم تجربة تعليمية ثرية وملهمة لأبنائنا.
*مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية