يتكاثر هذا التعبير «الأمل الذي لا شفاء منه» في مقالاتي ومقالات الكثير من الزملاء الكتاب في السنوات والعقود الأخيرة، لأنّ الكثير الكثير من الآمال في السلام والاستقرار وحفظ الأرض والإنسان لم تتحقق. لكن ماذا يبقى غير السعي الحثيث والأمل الواسع، والذي تتراكم خيباته. فالبديل عن أمل السلام غير مقبول ولا مرغوب، وهو الواقع في منطقتنا منذ عقود بالحروب، وعدم الاستقرار والميلشيات المسلحة الغالبة على القرار في عدة بلدان بالمشرق، والعاملة لهذا الطرف أو ذاك خارج مصلحة بلدانها وأوطانها وشعوبها.
يتكرر الأمل والعمل من عشرات الجهات، وبخاصة بعد اندلاع حربي غزة ولبنان. فبالنسبة لغزة وللمرة العاشرة ما استطاع مجلس الأمن اتخاذ قرارٍ بالوقف الفوري للنار في الحرب بسبب الفيتو الأميركي. لقد خربت أكثر أجزاء قطاع غزة بعد ثلاثة عشر شهراً من الاشتباكات والغارات الدموية، وسقط أكثر من خمسين ألفاً من القتلى وأكثر من مائة ألف من الجرحى، وللأطفال والنساء القسط الأوفر بين الضحايا. أما في حرب لبنان فهناك حتى الآن أربعة آلاف قتيل وأكثر من ثلاثين ألفاً من الجرحى والمصابين، وتهدم جزئياً أو كلياً مائة ألف مسكن، وصار التركيز على عمران المدن، وعلى تهجير الناس منها. وللمرة الرابعة أو الخامسة يأتي مبعوث الرئيس الأميركي، هوكستين، إلى لبنان ومعه ورقة الوساطة والشروط التي تُعرضُ على الطرفين اللبناني والإسرائيلي. وفي حين تتصاعد الآمال أكثر هذه المرة، يشكّك كثيرون في إمكان تحقق السلام أو الهدنة، لأنّ إسرائيل تلح على حقها في التدخل إذا تعرض شمالها لهجومٍ أو تهديدات بعد وقف النار. أما اللبنانيون (يعني ممثلي الثنائي) فيصرون على سيادة البلاد، أي أنهم ضد مراقبة منطقة الاشتباكات لإدانة المخالفين، وحجتهم أن في ذلك عذراً للابتزاز والتدخل! وكأنّ إسرائيل لا تتدخل الآن، وكأنهم هم لا يريدون ترك منطقة الليطاني التي هي سبب الحرب الآن.
ما أقصده أن كل الاشتراكات، سواء من «حماس» أو من الحزب المسلح ما عاد لها معنى، فهم الذين أثاروا الحرب قبل عامٍ ونيف وانهزموا فيها وتسبّبوا في الرد الإسرائيلي والمذابح. وهكذا فالناس جميعاً في غزة وجنوب لبنان، ومعظمهم خارج منازلهم الآن، يريدون الأمن والغذاء والتعليم والصحة لأولادهم، وهم معرضون لشقاء طويل إذا عادوا ولم يجدوا منازلَهم ولا مزارعهم ولا مدارس أطفالهم.
أفليس من حقّ ملايين الناس في هذه المنطقة أن يكون بوسعهم السكن والسكينة والأمن والأمان. والأمر العجيب أنّ مسبّبي المذابح هؤلاء هم الذين يفاوضون، وهم الذين يشترطون وهم ينافسون في ذلك نتنياهو. يقولون إنهم مستعدون للاستمرار في المقاومة حتى الاستشهاد. لكنْ ليس لذلك معنىً بعد كل الذي حصل، وإذا كانوا يريدون الاستمرار الانتحاري، فإنّ الناس في مناطق تحصّنهم ما عادوا يقبلون هذا التصرف العشوائي بمصائرهم!
المهزوم والمصاب لا يستطيع التفاوض بعقلٍ بارد، فلماذا لا تفاوض السلطة الفلسطينية ما دامت ستحكم أو يكون لها دور في إدارة القطاع بعد الحرب؟ وفي لنبان لماذا لا تُفاوضُ الحكومة بدلاً من الحزب وظلّه في مجلس النواب؟
وعلى أي حال فإنّ هذه الحروب الهزائمية تزيد التشرذم بالدواخل، وتعطي الفرصة لإسرائيل كي تكون أكثر قسوةً واستئثاراً، وتولّد أصولياتٍ ستكون أكثر تطرفاً.
إنها سنواتٌ لا تُحتمل بالفعل وأوضاعٌ لا يراد من ورائها معذرة الغير، مما يتطلب موقفاً في وجه الدمار الذي حلّ بعدة دولٍ في المنطقة، وترك الناس حيارى لا يدرون كيف يعيشون، ولا كيف يموتون. الأمل الذي لا شفاء منه هو أمل الحياة والمستقبل.
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية