توصف الرياضيات بأنها أقدم فكر إنساني مستمر. ويُقال إن هذا الفكر مارسه بفعالية علماءُ الرياضيات الغربيون، وخاصة الرجال منهم. وتذهب السردية التي تدعم هذه الفكرة إلى أن أصل الرياضيات يعود إلى اليونان القديمة، وأن الرياضيات التي كانت تمارَس في الثقافات القديمة الأخرى، كانت هامشية أو مجرد «علم بربري» أو «رياضيات عرقية»، على الرغم من أن المفكرين غير الغربيين مارسوا في كثير من الأحيان رياضياتٍ متقدمةً على تلك التي عرفها الأوروبيون.
وفي كتاب «الحياة السرية للأرقام»، تسعى مؤرخة الرياضيات كيت كيتاغاوا والكاتب المتخصص في العلوم تيموثي ريفيل، من خلال أدوات منطقية وعلمية، إلى دحض «الفكرة التي مفادها أن الطريقة الأوروبية لفعل الأشياء هي الأفضل».
المؤلفان يستهلان كتابهما بأساليبِ عدٍّ تَعودُ إلى عصور ما قبل التاريخ، ثم ينتقلان إلى المرأة الإسكندرانية باندراسيون التي عاشت في القرن الرابع قبل الميلاد، وهي عالمة هندسة حلّت المسألة الصعبة المتمثلة في مضاعفة حجم المكعب، وهيباتيا التي كتبت تعليقات رياضية، أشهرها تلك التي وضعتها على كتاب عالم الرياضيات اليوناني أبولونيوس «المخروطيات»، وهو عبارة عن تحقيق حول الدوائر والأشكال الإهليلجية وغيرها.
وترجِّح كيتاغاوا وريفيل أن يكون عالم الرياضيات الألماني يوهانس كبلر، الذي وصف مدارات الكواكب في القرن السابع عشر، قد تأثّر بمساهماتها العلمية. وتمثِّل الإنجازات المهملة أو المنسية لعالمات رياضيات نساء موضوعاً يتكرر بين ثنايا الكتاب. فهناك فصلٌ أفرده المؤلفان لصوفي كواليفسكي، وهي روسية عاشت في القرن التاسع عشر وأصبحت أول امرأة أستاذة للرياضيات في السويد. وباستخدام طرائق لم يفكر أحد في استخدامها من قبل، تمكنت كواليفسكي من حلّ مسألة رياضية مستعصية تتعلق برياضيات القمة الدوارة. ولما علِمت «الأكاديمية الفرنسية للعلوم» بعملها، اختارت مسألة القمة الدوارة تيمةً لجائزتها السنوية تلك السنة (1888) على أمل أن تشارك بعملها في المسابقة. ولكن كوالفسكي تأخرت عن الموعد المحدد للتقديم، فمدّدته الأكاديمية لثلاثة أشهر إضافية.
وحينما قرر أعضاء لجنة التحكيم منحها الجائزة، وزادوا من قيمة الجائزة بمقدار النصف تقريباً، في مثال نادر على تفضيل عالمة رياضيات امرأة على زملائها من الرجال. كما خصص كيتاغاوا وريفيل فصلاً لـ«بيت الحكمة»، وهو مكتبة فخمة وبيت للعلم ومركز للبحث العلمي كان موجوداً في بغداد في القرن الثامن الميلادي، وفيه أنجز محمد بن موسى الخوارزمي، الذي يُطلق عليه لقب «أبو الجبر»، بعضَ أعماله. ثم يسلِّطان الضوء على النساء اللائي كان يُطلَق عليهن «الحواسيب البشرية»، واللائي قمن في جامعة هارفارد في أواخر القرن التاسع عشر بتجويد تطبيق أطوال الموجات الضوئية لتصنيف النجوم. وفي الأجزاء الأخيرة من الكتاب، يتطرق المؤلفان لعالم الرياضيات الهندي سرينافاسا رامانوجان الذي عاش في أوائل القرن العشرين وكان عالماً عصامياً طبقت شهرته الآفاق، وكانت فرضياته عميقة وواسعة لدرجة أن آثارها ما زالت موضوع دراسة وبحث إلى اليوم. وبالإضافة إلى معرفتهما بالتاريخ، فإن كيتاغاوا وريفيل خبيران في شرح الرياضيات. إذ باستطاعة أي شخص لا يفهم معنى الخوارزمية استيعاب مفهومها في هذا الكتاب، كما أن وصفهما لحساب التفاضل والتكامل واضح ومركَّز إلى حد كبير. غير أن حساب التفاضل والتكامل هو الموضوع حيث قد يكونان سقطا في ما يشبه الترافع والدفاع. ذلك أن اختراع حساب التفاضل والتكامل يُنسب تقليدياً إلى إسحاق نيوتن وغوتفريد لايبنتز، اللذين عملا بشكل مستقل في القرن السابع عشر. غير أن كيتاغاوا وريفيل يريان أنه «من الخطأ الادعاء بأن أصل حساب التفاضل والتكامل يعود إلى لايبنتز أو نيوتن، لأن هناك شيئاً واحداً مؤكداً، وهو أن أيا منهما لم يكن السبّاق إلى ذلك».
وبالمقابل، يقول المؤلفان إن حساب التفاضل والتكامل ظهر في الهند خلال القرن الرابع عشر على يد عالم رياضيات يُدعى مادهافا. وكان مادهافا يدرّس في مدرسة في كيرالا، وقد استخدم القواعدَ التي تُعد عناصرَ فرعية تابعة لحساب التفاضل والتكامل. وفي هذا السياق، يستشهد كيتاغاوا وريفيل بما كتبه عالم الرياضيات الهندي جورج غيفيرغيز جوزيف، الذي أصدر في عام 2009 كتاباً تحت عنوان «ممر إلى اللانهاية»، ويقولان إن جوزيف «أكد وجود طريق للمعرفة من الهند إلى الغرب»، وهو ما يوحي بأن «لايبنتز ونيوتن قد يكونان تأثّرا بالمدرسة الرياضية في كيرالا». هذا الادعاء يستند جزئياً إلى إمكانية أن يكون اليسوعيون هم مَن أدخلوا عمل مادهافا إلى أوروبا، غير أن جوزيف يشير في كتابه إلى أن «البحث الشامل في العديد من المخطوطات» لم يسفر عن «أي دليل مباشر يدعم فرضية النقل المطروحة».
ويرجِّح، بالمقابل، أن يكون البحارةُ الأوروبيون قد استخدموا عمل مادهافا في الملاحة، وأن يكون عمله دخل بعد ذلك في الممارسات الأوروبية دون أن يعرف أحدٌ في القرون اللاحقة مصدره، أي أن الأمر يتعلق على الأرجح بعملية تناقل من شخص إلى آخر، قبل أكثر من 600 عام، وهو أمر يتعذر إثباته تقريباً. وفضلاً عن ذلك، فإن الاكتشافات الجديدة قلّما تبقى في الأمكنة التي اكتُشفت فيها. ولعل جزءاً من قيمة عمل مادهافا أنه يوضِّح أن الرياضيات المعقدة تنتمي إلى جميع الشعوب وجميع الثقافات في جميع العصور، وأن التقليل من شأن عمل تاريخي باعتباره «رياضيات عرقية» إنما هو تعبيرٌ عن حكم سلبي مسبق.
محمد وقيف
الكتاب: الحياة السرية للأرقام.. التاريخ الخفي لروّاد الرياضيات المجهولين.
المؤلفان: كيت كيتاغاوا وتيموثي ريفيل.
الناشر: ويليام مورو تاريخ النشر: يوليو 2024