بدأت التهاني تتدفق من القادة الأوروبيين إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب،، وهي الطريقة التي كان يخطط بها رئيس وزراء هنغاريا، فيكتور أوربان، للاحتفال. يشعر أولئك الذين ينتمون إلى التيار القومي والمشككين في الاتحاد الأوروبي بالانتعاش؛ في حين أن أولئك الذين ينتمون إلى اليسار يغردون على منصة X ، وهم يضغطون على أسنانهم. وفي فرنسا، أقدم حليف لأميركا، يسود تضارب في المزاج: فقد تبع تغريدة الرئيس إيمانويل ماكرون باللغة الإنجليزية عرض «العمل معاً» مع ترامب تغريدة باللغة الفرنسية وعد فيها بقوة بأوروبا أقوى وأكثر اتحاداً.
ومع ذلك، فإن أي محاولات لمخاطبة ترامب بطريقة خاصة لن تغيّر حقيقة أن القارة العجوز تبدو ضعيفة في مواجهة العاصفة الجيوسياسية القادمة. إن البيت الأبيض والكونجرس بقيادة «الجمهوريين» الذين يؤمنون بشعار «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً» من شأنه أن يجلب معه خطر زيادة الإنفاق على مبدأ «أميركا أولاً»، وفرض رسوم جمركية عقابية على الواردات الأوروبية، والمعارك حول الضرائب والبيروقراطية على التكنولوجيا الأميركية (بما في ذلك تلك المتعلقة بإيلون ماسك). كما وضع ترامب مبدأ الدفاع المشترك بموجب المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي (الناتو) على المحك من خلال جعله مشروطاً بالإنفاق؛ واهتمامه الأساسي ينصب على الصين، وليس أوكرانيا.
مع تراجع أوروبا الاقتصادي وانخفاض إنتاجيتها تحت الضغط الصيني- الأميركي يبدو الرد القوي أمراً صعب المنال، كما هو الحال مع اعتماد القارة التي تقودها القوة الناعمة على أمن الولايات المتحدة. يواجه الاتحاد الأوروبي، بأعضائه الـ 27 إلى جانب جيرانه مثل المملكة المتحدة، خياراً صعباً. يمكن للقادة تبني نهج «التكيف التدريجي»، حيث يصطفون للثناء على ترامب ويسعون للحصول على معاملة تفضيلية من خلال صفقات أو (وربما بشكل أكثر واقعية) تنازلات، مما يطيل حالة الوضع الراهن في علاقة غير متكافئة مع الولايات المتحدة التي لعدم تعد تهتم بقارة تعاني الركود الاقتصادي وتراجع ديموغرافي.
وقد يوفر هذا تمديداً لما يسميه «فرانسوا هيسبورج»، من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بـ«الثلاثين سنة الكسلانة»- وهي حالة السبات الجيوسياسي التي تتمثل في نموذج ألمانيا الذي يعتمد على الدفاع الأميركي، والتجارة الصينية، والغاز الروسي، بينما يترك الإنفاق الدفاعي والمصداقية الاستراتيجية تتراجع. أو يمكنهم اتباع نهج أكثر حزماً واستثماراً - بدءاً بالدفاع - مما يسمح بتوزيع الأعباء بشكل أفضل، وتقديم دعم مستقل لأوكرانيا في سعيها إلى «السلام العادل»، وبناء علاقة أكثر توازنا مع أميركا في عهد ترامب. أعلم أن هذا النوع من الحديث قد يبدو أقرب إلى التأملات النظرية منه إلى الواقع.
لقد مر ما يقرب من عقد من الزمان منذ تولى ماكرون السلطة مع وعود بالسيادة والاستقلال الاستراتيجي - ولكن حتى اليوم، مع أكبر صراع شامل على الأراضي الأوروبية منذ عام 1945، زودت كوريا الجنوبية أوكرانيا بقذائف أكثر من أوروبا بأكملها، ومشروع ستارلينك الذي أنشأه ماسك هو العامل التكنولوجي الذي يغير قواعد اللعبة. وكما قال «زبيجنيو بريجنسكي»، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، ذات يوم، فإن أوروبا هي بمثابة محمية أميركية ذات اعتماد اقتصادي عميق. وهذا ليس بالأمر الذي يمكن التخلص منه بين يوم وليلة. ولكن هناك تلميحات خافتة للتغيير تلوح في الأفق. يمثل ترامب اتفاقاً أمنياً يبدو أقل جاذبية لكلا الجانبين: ذلك أن تحول اهتمام الولايات المتحدة نحو آسيا يعني أن وجود 100 ألف من أفراد القوات الأميركية في أوروبا لم يعد أمراً مسلماً به، كما حذر ترامب نفسه، في حين تبدو المبالغ التاريخية المتدنية التي تنفقها دول مثل ألمانيا على الدفاع قد أصبحت عبئاً مع تسارع وتيرة الاقتصاد الحربي لروسيا.
لذا فإن هذا الإنفاق يرتفع: من المتوقع أن ترتفع النفقات العسكرية لأعضاء الناتو الأوروبيين بنحو 33 مليار دولار هذا العام لتبلغ 380 مليار دولار، ما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي، مع كون بولندا أكبر مساهم فردي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي.
وهذا لا يشير إلى الاستعداد الكامل، مع احتياجات الإنفاق الدفاعي للاتحاد الأوروبي البالغة 500 مليار يورو على مدى العقد المقبل. ولكن أوروبا على الأقل مستعدة لمضاهاة إنتاج الذخيرة الروسية العام المقبل. هذه الصحوة لا تأتي فقط من الأطراف المعتادة - مثل فرنسا- بل من «الدول المتأرجحة» في أوروبا التي كانت ذات يوم تؤمن بالولايات المتحدة. فقد غرد رئيس الوزراء البولندي «دونالد توسك» مؤخراً بأن «عصر الاستعانة بمصادر خارجية جيوسياسية قد انتهى»، وأعربت رئيسة وزراء إستونيا السابقة «كايا كالاس» عن دعمها لتمويل الدفاع المشترك للاتحاد الأوروبي، وتم منح رئيس وزراء ليتوانيا السابق «أندريوس كوبيليوس» وظيفة جديدة كمفوض أوروبي للدفاع والفضاء.
ويشكل تحفظ ألمانيا حجر عثرة رئيساً، لكن «فريدريش ميرز»، المرشح الأوفر حظاً لمنصب المستشار القادم، اتخذ موقفاً قوياً مؤيداً لأوكرانيا، ويدعو إلى حلول من الاتحاد الأوروبي مع تزايد انعزالية الولايات المتحدة. ولكن هناك قطع حيوية مفقودة من اللغز. فأوروبا لديها قاعدة صناعية دفاعية قوية، بما في ذلك شركات مثا «راينميتال إيه جي» و«إيرباص إس إي»، لكنها تحتاج إلى المزيد من العقود، وتقليل التجزئة، وتحديث أنظمة الشراء في عالم يعتمد بشكل أكبر على بالتكنولوجيا. وهي تحتاج أيضاً إلى اتخاذ قرارات أسرع: يجادل الوزيران السابقان في فرنسا ومولدوفا «لورانس بون» و«نيكو بوبيسكو» بضرورة إنشاء نسخة أوروبية من قانون الإنتاج الدفاعي الأميركي لتسريع الاستجابة في الأزمات.
ونظراً للقيود المالية، هناك حالة متجددة لسندات الدفاع التي من شأنها أن تزيد الإنفاق، وتجعله أكثر كفاءة وتشجع التنسيق، كما يزعم مركز الإصلاح الأوروبي. وعلى الرغم من أن العلاقة عبر الأطلسي تعاني من العديد من القضايا، فإن كل شيء ينبع من الدفاع: فهو سبب مباشر للتوتر لأن الأوروبيين لا يتحملون نصيبهم العادل، وسبب غير مباشر، لأنه يمنح ترامب وسيلة لانتزاع التنازلات في مجالات أخرى. والمزيد من الدفاع يعني المزيد من الاستقلالية، والسياسة الجيوسياسية الأكثر مصداقية، وقاعدة صناعية أكثر صحة. وإذا انتصرت الطرق القديمة - والمخاطرة بذلك عالية - فإن «الشتاء الجيوسياسي» القادم سيكون بارداً للغاية.
ليونيل لوران
*كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»