في عالم يشهد تحديات جيوسياسية متنوعة واضطرابات اقتصادية متعددة، يتجدد الزخم حول السياسة الصناعية في أقاليم دولية متنوعة، إذ يلاحظ أن عدداً من الحكومات يعمل في الوقت الراهن على تحفيز وتطوير القطاعات الصناعية المحلية وتعزيز قدرتها التنافسية في الأسواق.  وقد طرحت تلك التوجهات الأخيرة تساؤلات حول دوافع الحكومات لتعزيز السياسات الصناعية الوطنية، وحول تداعياتها المحتملة على السياسة والاقتصاد، وكيف يمكن أن توثر الصراعات والمنافسة الجيوسياسية على اختيار واستخدام السياسة الصناعية لدى الدول. وهنا تجدر ملاحظة أن السياسات الصناعية تشير إلى المساندة الحكومية المُقدمة للشركات بهدف تعزيز أو إعادة تشكيل أنشطة اقتصادية محددة في الدولة لها أهمية استراتيجية.

ويكون هذا التعزيز من خلال استخدام مختلف الأدوات السياسية، مثل الإعانات، والحوافز الضريبية، والتنظيمات، ودعم البحث والتطوير، ورفع الحواجز الجمركية أمام الواردات. ودائماً ما توظِّف الحكومات هذه السياسات لمعالجة مختلف التحديات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية التي لا تستطيع الأسواق معالجتها بمفردها.

فعلى سبيل المثال، يجري الاعتماد على السياسات الصناعية لتسريع التحول إلى انبعاثات كربونية صفرية صافية، وتشجيع الابتكار والإنتاج المحلي، وتحسين كفاءة ومرونة سلاسل توريد المنتجات الحيوية. كما يبدو أن معالجة المخاوف الأمنية والجيوسياسية الوطنية تعدُّ إحدى أهم محركات تسريع وتيرة تبنّي بعض الحكومات للسياسات الصناعية. وقد تخلت الولايات المتحدة منذ عقود عن السياسة الصناعية، في ظل التوافق السائد بأن خصخصة الشركات المملوكة للدولة وتعزيز التجارة الحرة هو أساس التنمية الاقتصادية.

غير أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها السنوات القليلة الماضية جددت الاهتمام بالسياسة الصناعية، ومن أبرز هذه الأحداث صعود الصين التي ترى فيها واشنطن منافساً لها، خصوصاً في ظل النموذج الناجح التي تقوده بكين في مجالات السياسة الصناعية، ونقاط الضعف في سلاسل التوريد العالمية التي كشفت عنها جائحة كوفيد-19. ودائماً ما يُثار الجدل حول إيجابيات وسلبيات السياسة الصناعية، حيث يناقش في جوهره دور الأسواق الحرة ودور الحكومة في الاقتصاد.

وبينما توفر السياسات الصناعية إيجابيات ومكاسب اقتصادية واسعة النطاق، فإنها تعزز الناتج المحلي الإجمالي، وتزيد من حجم الصادرات، كما تسهم في تقليل العجز في الميزان الصناعي.

وبالرغم من هذه المكاسب الاقتصادية، هناك آراء تسلط الضوء على سلبيات تنامي السياسة الصناعية وزيادة التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي، وتشمل تلك الحجج تأثر الإنتاجية ورفاهية المجتمعات وتشوُّه الأسواق، بسبب اعتماد بعض السياسات الصناعية بشدة على الدعم الحكومي أو الإعفاءات الضريبية.

ومع هيمنة الحكومة على السياسات الصناعات بمرور الوقت، تتأثر العلاقات التجارية مع الشركاء الدوليين والاقتصاد العالمي، وهو ما يظهر حاليّاً في التنافس الأميركي-الصيني. وبالتأمل في الواقع الدولي الراهن يلاحظ أنه لم تؤثر السلبيات المذكورة للسياسات الصناعية في إبطاء وتيرة التدخل الحكومي لتطوير قطاعات التصنيع.

وختامًا، يمكن القول إن الوصول للوضع المثالي للسياسات الصناعية كفيل بأن يقلل تداعياتها السلبية المحتملة، خصوصاً إذا رُسمت هذه السياسات لتراعي المستوى التنموي القائم في الاقتصاد وتتفاعل إيجابيًاً مع السياق الدولي المصاحب لتطبيقها. وبالقدر الذي يحقق الاقتصاد تناغماً في سياساته الصناعية ودعماً لمصالح القطاع الخاص ومراعاة للاستقرار في علاقاته الاقتصادية والجيوسياسية الدولية، فإنه سيضمن بذلك مستقبلاً تحقيق نمو اقتصادي سريع ومستدام.

*باحث رئيسي - مركز تريندز للبحوث والاستشارات