تتسارع الخطوات الخليجية الرامية لتطوير قطاع التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، وبصورة ملحوظة ستؤدي إلى تغيرات مهمة في الاقتصادات الخليجية، حيث سبق أن أشرنا في 28 مارس من هذا العام، في المقالة المنشورة هنا تحت عنوان «الخليج وتحديات الذكاء الاصطناعي»، إلى التقدم الذي تحقق، وإلى ضرورة توطين واستقطاب الشركات العملاقة العاملة في هذا المجال، خصوصاً أن دول المجلس تملك القدرات المالية اللازمة لذلك.
وخلال سبعة أشهر تحققت تحولات مهمة إلى درجة أنه يُطرح الآن في أوساط عالمية التساؤل: هل تتحول دول مجلس التعاون الخليجي إلى مركز عالمي لتقنيات الذكاء الاصطناعي؟ ولم يأت هذا التساؤل من فراغ، إذ تمكن الإشارة إلى العديد من أوجه التقدم التي تحققت خلال فترة زمنية قصيرة؛ فمن المعروف أن أكبر شركة في العالم لصناعة الرقائق الذكية هي شركة «TSMC»، الواقع مقرها في تايون، وكذلك شركة «سامسونغ» الكورية الجنوبية، بالإضافة طبعاً إلى شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية العملاقة.
ومع أنه لا تمكن الإشارة إلى كافة التطورات الخليجية التي حدثت، خلال الفترة الماضية، فإنه يمكن التنويه إلى أهمها؛ إذ ذكرت «وول ستريت جورنال» أن وفداً من شركة «TSMC» زار أبوظبي مؤخراً، للنظر في إمكانية بناء مجمع لتصنيع الرقائق الذكية باستثمارات تبلغ 100 مليار دولار، وربما بمساهمة شركة «سامسونغ».. مما يعد تحولاً مهماً سيخلق مركز ثقل تكنولوجياً لصناعة الرقائق والذكاء الاصطناعي في دولة الإمارات، ويتضح ذلك من حجم الاستثمار الكبير والاهتمام من طرف أكبر شركة عالمية عاملة في هذا المجال.
وإلى ذلك، فقد ارتفع، خلال الفترة الماضية، عدد الشركات الرقمية في دبي ليبلغ 120 ألف شركة باستثمارات تبلغ 38 مليار دولار، يتوقع أن ترتفع إلى 140 مليار دولار في الفترة القادمة. ومعلوم أن دبي تحوّلت إلى مركز استقطاب لشركات التكنولوجيا بفضل البنية التحتية المتطورة التي أقامتها.
وفي الوقت نفسه حققت السعودية قفزةً كبيرة في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي لتصعد 17 مركزاً، خلال الفترة الماضية، وتحتل المركز 14 عالمياً، مقابل المركز 31 قبل ذلك، متجاوزةً العديدَ مِن الدول المتطورة، وذلك بفضل التقدم الذي تحقق، وحجم الاستثمارات التي ضُخَّت في المجالات الخاصة بالتقنيات المتطورة والذكاء الاصطناعي.
وهنا ربما يطرح بعضُهم تساؤلاً آخر حول جدوى نقل التكنولوجيا بخبرات أجنبية! لكن الأمر لا يقتصر أبداً على عملية النقل، بل هناك توجه جاد لتوطين هذه التقنيات وتنميتها محلياً، بدليل التغيرات التي تطال الجامعات والمعاهد العليا في دول مجلس التعاون، والتي أدت إلى إقامة مؤسسات مهمة للذكاء الاصطناعي، واتّباع سياسات تعليمية جديدة ترمي إلى تشجيع المواطنين على الالتحاق بكليات العلوم التطبيقية.
وإضافة إلى ذلك، يدرس الآن أكثر من 250 ألف طالب خليجي في مختلف الجامعات حول العالم، حيث يتم توجيههم نحو كليات التكنولوجيا الحديثة، وذلك علاوة على عدد مماثل يتلقَّون تعليمهم العالي في دول مجلس التعاون في مختلف التخصصات العلمية والتقنية، حيث شهد التعليم الجامعي بدوره تطوراً مهماً في العقد الماضي صعدت معه بعض الجامعات الخليجية إلى مراكز متقدمة ضمن التصنيفات المعتمدة لمؤسسات التعليم الجامعي.
وفي هذا الصدد، أطلق الاجتماع الأخير للجنة العليا لتكنولوجيا المستقبل والاقتصاد الرقمي في دبي مبادرةً لتدريب خمسة الآف مواطن في مجال تكنولوجيا المستقبل، خلال خمس سنوات، وتأهيلهم للعمل في شركات التكنولوجيا الحديثة.
من ذلك، يتضح جلياً أن التوجهات الخليجية الحالية لا تقتصر على عملية النقل الآلي، وإنما تركز على توطين هذه التقنيات، وبالأخص في مجال الذكاء الاصطناعي، علماً أن معظم المعاملات حالياً في دول الخليج العربي تتم من خلال الأنظمة الإلكترونية والتقنيات الذكية، وهو ما يؤدي إلى تطوير هذه المهارات وتقدم التعاملات الذكية بشكل عام.
ولذا فإن التساؤل الخاص بإمكانية تحوّل دول مجلس التعاون الخليجي إلى مركز عالمي لتقنيات الذكاء الاصطناعي له ما يبرره، وهو يستند إلى قاعدة تكنولوجية وتعليمية قوية، ويعد خطوة مهمة أخرى لتحقيق التنويع الاقتصادي، ولمسايرة التحولات التقنية الذكية في العالم، حرصاً على أن تكون دول مجلس التعاون مشاركاً فاعلاً، ومكوناً أساسياً في هذه التحولات.
*خبير ومستشار اقتصادي