هل يمكن أن تقع في حب مدينة ما، لأنها كانت حلماً لأحدهم، وكانت سراً من أسرار بعضهم؟ وكم من المبدعين حول هذا الكوكب الأزرق يجعلك تبحث عن المدينة التي أشعلت الحب داخل قلبه؟ هذا ما حدث لدى قراءتي السيرة الذاتية للمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني، ساحر السينما، الذي تحدث في مذكراته عن اللقاء بمحبوبته روما، وكيف أصبحت جزءاً من حياته.
فيلليني واحد من أبرز المخرجين في تاريخ السينما العالمية، وقد عُرف بأسلوبه الفريد والمعقد الذي يدمج بين الخيال والواقع. وُلِد عام 1920 في مدينة ريميني الإيطالية، وتوفي عام 1993، تاركاً بصمةً لا تُنسى في عالم السينما، حيث كان يلقَّب «ساحر السينما».
كان لدى فيلليني علاقة عميقة ومعقدة مع مدينة روما، وهي العلاقة التي شكّلت مصدر إلهام رئيس في أعماله السينمائية. وقد عبّر في مذكراته وأحاديثه عن حبه الشديد لهذه المدينة، مشيراً إلى أنها كانت مركزاً لتجاربه وآرائه ورؤاه الفنية. وقد صفها في مذكراته بأنها المدينة المعلم، واعتبر أنها ليست مجرد مدينة، بل شخصية حية ومتفاعلة، قائلاً إنها معلم ومدرسة، إذ تَعلّم دروسَ الحياة والفن من شوارعها وشخصياتها، كما ذاب عشقاً في جمالها الفريد. كما أشار إلى الغرابة والانحراف الذي يميز الحياة فيها، وهو ما ألهم الكثير من أفلامه، حيث كانت تجسد الفوضى والجمالَ في آن واحد. كما كانت تجسيداً لذكرياته الشخصية. في «أماركورد»، على سبيل المثال، استند إلى تجاربه في المدينة، خلال فترة شبابه، ما أضاف عمقاً إنسانياً للأحداث.
وهناك العديد من المبدعين العرب الذين عُرفوا بعشقهم لمدنهم، وقد عكست أعمالُهم الأدبية والفنية هذا الحب والارتباط العميق، ومن هؤلاء المبدعين نجيب محفوظ الذي يجسد حياة القاهرة في رواياته، خاصة في ثلاثيته (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) التي كانت تصويراً حياً للقاهرة، بأسواقها وشوارعها وأهلها وتفاصيل حياة سكانها وتاريخ عمرانها.
وكذلك الشاعر أدونيس الذي يتغنى دائماً بمدينته حمص، والتي يستحضرها في كثير من قصائده، معبِّراً عن جمالها وعن ذكرياته فيها، محاولاً التقاط روح المدينة، وتأثيرها على مغزى الحياة والشعر.
ويمثل جبران خليل جبران جسراً بين الشرق والغرب، وقد كتب العديد من المؤلفات التي تعبّر عن حبه لبلدته «بشري» في شمال لبنان. في أعماله مثل «النبي».
كما يعبِّر طه حسين عن حبه لمدينة «القاهرة» بصفة خاصة، مستعرضاً تجاربه الشخصية فيها وتأثيرها على ثقافته وفكره.
أما يوسف إدريس، فمعروف بتصويره الحياة اليومية في القرى والمدن المصرية. وفي كتاباته، ترتسم التغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها هذه القرى والمدن.
أما في عالم المبدعات، فما فتئت الأديبة والشاعرة غادة السمان تعبّر عن حبها لمدينتها دمشق في كثير من المقالات والروايات، مسلطةً الضوءَ على الجمال والتاريخ الغني لهذه المدينة التي أصبحت خلفية لرواياتها وأشعارها. وكذلك الشاعر المصري أمل دنقل الذي قدّم ولاءه الكبير لأرضه، حين تغنى بمدن مصر وتراثها، وقد تطرق لقضايا المدينة، وتأثيرها على الهوية.
هؤلاء المبدعون تجلّى عشقهم لمدنهم في أعمالهم الفنية والأدبية، واستخدموا تلك المدن خلفيات تعكس تجاربهم وعواطفهم ورؤاهم، فكانت المدن بالنسبة لهم أكثر من مجرد أماكن، بل كانت تجسيداً للهويات والتاريخ والثقافة.
*كاتبة سعودية