كلما تقدمنا خطوة في الحضارة الإنسانية الحديثة، تزداد قدرات الإنسان التكنولوجية، وتتسارع وتيرة الاكتشافات والابتكارات. يتسع العالم وينمو البشر، وتتطور وسائل الاتصال، فتتشابك المصائر البشرية في شبكة معقدة. ومع هذا التطور، يتغيّر نمط الحياة ويتحوّل الإنسان إلى نمط استهلاكي، حيث تبدو الحياة، وكأنها مضمار سباق لا نهاية له. يسعى الجميع لتحقيق النجاح وإشباع رغباتهم المادية، ما يزيد الضغط النفسي والخوف من السقوط تحت أقدام المتسابقين الآخرين.
ومع سيطرة الآلة الإعلامية، وتحوّل الشغف من القيم الإنسانية والروحية إلى القيم المادية، تزداد الأوجاع النفسية والروحية لدى الإنسان المعاصر. كل تلك الحقائق تجعلنا ندرك أن العصر الحديث ليس عصر الشبكة العنكبوتية فحسب، بل هو أيضاً عصر الضغوط النفسية المتشابكة. هنا يظهر دور الفن وسيلة لتهدئة الروح، ومواجهة هذه الضغوط.
الفنون هي تعبير الروح عن رؤيتها وتأثرها بالحياة ومفردات الواقع، قبل أن تكون صنيعة للعقل. إنها تمنح الإنسان طرقاً مختلفة للتعبير عن مشاعره وأوجاعه، ما يعيد إلى الروح توازنها، ويمنح العقل الشفافية اللازمة لاستكشاف الأزمات وبناء الحلول، بعد أن يحصل على جرعة من السكينة، نتيجة لتخلص الروح من أثقالها عبر إنتاج الفنون أو التمتع بها كمتلق.
إن تعلّم الفنون وممارستها، سواء على مستوى الإبداع أو التلقي، يزيل الغبار العالق بالروح والعقل، ويعمّق الإحساس بالحياة وبالآخرين. هذا يساعد في تطوير القيم الروحية والأخلاقية، ويدفع الإنسان إلى التأمل في ذاته والتعرف على نفسه بشكل أعمق، وتنمية قدرته على الشعور بالآخرين. فيصبح الإنسان طاقة نابضة بالقيم الإنسانية والروحية، مما يزيد من قدرته على مواجهة ضغوط العصر الحديث وأزماته الفردية التي يواجهها في حياته اليومية.
إن ممارسة الفنون لا تقتصر على الفنانين المعروفين في مختلف المجالات، بل هي متاحة لكل إنسان بطرق بسيطة يحبها. فممارسة أعمال الحياكة هي فن، وإعادة ترتيب المنزل وتوزيع قطع الأثاث هو فن أيضاً. وحتى وضع بعض النباتات على حافة النافذة هو تعبير فني، وكتابة رسالة تعبّر فيها عن مشاعرك إلى شخص عزيز هي بدورها إبداع وفن.
إن الانخراط في أي نوع من أنواع الفنون، أو التأمل في منتج فني أياً كان نوعه، يمنح العقل فرصة للتركيز على لحظة الإبداع نفسها. وفي تلك اللحظة، ينخرط العقل في طاقة من التفكير الإبداعي، مهما كانت النتائج بسيطة. هذا يتيح للعقل مساحة من الراحة، ليتمكن من التخلص مؤقتاً من عبء التفكير في الأزمات. هذه الاستراحة تساعد العقل على العودة بنشاط أكبر، وتركيز أعمق، وقدرة أفضل على رؤية التحديات بوضوح. وهكذا، يخرج الروح من تحت غبار الأزمات المتراكم، ويستعيد بريقه وتألقه.
إن الفن وسيلة قوية ومؤثرة لمساعدة النفس البشرية على التفاعل مع العالم من حولها، وتجاوز الأزمات النفسية والروحية. إنه يتيح للإنسان التعبير عن نفسه بطرق غير تقليدية، ويعمل ملاذاً آمناً يساعد على استعادة التوازن النفسي والروحي. سواء كان عبر الرسم، أو الموسيقى، أو الكتابة، أو أي شكل من أشكال الإبداع، يبقى للفن دورٌ أساسي في تهدئة الروح، ومواجهة تحديات العصر الحديث.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة