الدول تخلد عبر نشر إشعاعها الحضاري في العالَم أجمع، من خلال مشاريع إنسانية مستدامة، تعكس قوةَ هويتها الثقافية التي من خلالها تخترق الحواجز الدينية والمعتقدات البشرية لتثبيت أركانها العميقة في مختلف مجتمعات المعمورة.
وكان المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، على دراية تامة بهذه الحقيقة الساطعة، لعمق بصيرته في التاريخ المعاصر. وندرك ذلك جيداً من وجهته التاريخية إلى الصين في عام 1990، عندما قدّم منحةً قيمتها 1.35 مليون دولار لجامعة الدراسات الأجنبية لإنشاء مركز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لدراسة اللغة العربية والدراسات الإسلامية، الذي تم تأسيسه في بكين عام 1994، ليكون صرحاً علمياً يَنشر الثقافة الإسلامية ومؤسسةً تعليمية حجزت مكانَها في الصفوف الأولى بين مثيلاتها في العالم.
هذا في الشرق، أما في الغرب، وتحديداً في إيرلندا، فقد أخذ زمام المبادرة، عبر الاهتمام بشؤون المسلمين هناك، الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، رحمه الله، وذلك عندما قام بتأسيس المركز الثقافي الإسلامي في العاصمة الإيرلندية دبلن عام 1996، للتعريف بالإسلام وقيمه الثقافية وللحفاظ على الهوية الإسلامية لمسلمي إيرلندا. ومن جملة ما يهدف إليه المركز، التعريف بالإسلام وفق طرق تناسب المجتمع الإيرلندي، وتقديم خدمات عالية المستوى، وتثبيت الاندماج الإيجابي والسمح، والسعي إلى معالجة الصور النمطية التي تشوه حقيقة الإسلام الحنيف. ويخدم هذا المركز حالياً أكثر من ستين ألف مسلم يعيشون في إيرلندا في وئام وانسجام مع من حولهم.
وفي القارة الأفريقية، هناك بصمة حضارية أخرى، بادر بها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، ففي عام 2019 وجَّه سموه بترميم وتجديد «مكتبة ماكميلان التاريخية»، إحدى أشهر المكتبات في القارة الأفريقية في العاصمة الكينية نيروبي. وقد جاءت هذه المبادرة، انطلاقاً من إيمان سموه بأهمية رعاية التراث والاحتفاء به، وكجزء من الجهود المتواصلة التي تقودها إمارة الشارقة لدعم مسيرة الأمم والشعوب حول العالم في عملية بناء مؤسسات ثقافية قوية ومؤثرة في مجتمعاتها.وفي إطار النهج ذاته، والرامي إلى زرع ثمار الفكر الإنساني ومتابعة تطوره لصالح المجتمع في زمن عولمته، زار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، في عام 2001 الأزهرَ الشريفَ وقسمَ المخطوطات فيه. وكانت الزيارة التفاتةً مهمةً إلى هذا الكنز المعرفي الذي يجب الحفاظ عليه، فوجه سموه بضرورة تحويل ذلك العدد الكبير من المخطوطات (بلغ خمسين ألف مخطوطة في مختلف التخصصات) من الورق إلى الفضاء الإلكتروني، وقدّم منحةً قدرها خمسة ملايين دولار لإنجاز هذا العمل الحضاري.
وتقع هذه المخطوطات في ثمانية ملايين ورقة يرجع تاريخ بعضها لأكثر من 1000 عام، بالإضافة إلى 53 ألفاً من أمهات الكتب وأوائل المطبوعات، أحدثها طُبع قبل 60 عاماً، لوضع في متناول أكبر شريحة ممكنة من المتخصصين والباحثين في الدراسات الإسلامية وجعلها متاحة حول العالم.
وقد بدأ العمل في هذا المشروع في عام 2005، وفي عام 2011 تم توفير نسخ إلكترونية من 17 ألف مخطوطة. وقد قاد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هذا الدور الريادي برعايته الكاملة لحفظ التراث العلمي الإسلامي، ونشره لجميع المهتمين من كل أنحاء العالم.
وهذا المشروع التقني المتطور، يوفر للأزهر نفسه فرصة الوصول إلى هذه المخطوطات، إذ تبلغ المعاهد الأزهرية وحدها أكثر من 9000 معهد، بالإضافة إلى جامعة الأزهر التي تضم أكثر من 70 كلية، وتضم المعاهد والجامعة أكثر من 2.5 مليون طالب من جميع دول العالم.
*كاتب إماراتي