سليمان بشير ديان الفيلسوف السنغالي البارز، أصدر هذه الأيام كتاباً مهماً بعنوان «نشر الكونية: الإنسانية عن طريق وسائل الإنسانية»، بلور فيه مقاربة جديدة لحوار ثقافات في عالم مفكك الأوصال، تتزايد فيه الجدران والحيطان العازلة. «ديان» يرى أن العالَمَ كلَّه تحول إلى وضع آبارتايد واسع على طريقة جنوب أفريقيا أيام نظام التمييز العنصري فيها، بما يستوجب إعادة الاعتبار لمقولة «إبونتو» التي تعني بلغة البونتو «العمل سوياً على تحقيق إنسانيتنا»، وهي العبارة التي اعتمدها الزعيمان مانديلا وديزموند توتو شعاراً لنضالهما السياسي ضد الفصل العنصري.
وكان الرئيس السنغالي الأول، الشاعر سنغور، يقول إن «زهو الاختلاف يجب ألا يحول دون سعادة الائتلاف»، وهو ما يعني بالنسبة للمؤلف السعيَ الحثيث من أجل تفعيل الرابطة الكونية الإنسانية في ما وراء التباين الجوهري في القيم والثقافات والمعتقدات.
وفي هذا السياق، يميز ديان بين نوعين من الكونية: الكونية العمودية الاستعلائية المفروضة بالقوة والهيمنة التي طبعت السياسات الاستعمارية في تصورها الأحادي للحضارة الكونية والمركزية الرسالية، والكونية الأفقية التفاعلية وفق تعبير الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتي الذي يعني به العملَ الفلسفي على بناء معايير التعددية والتنوع، مستنتجاً من هذا التمييز أن نهاية الكونية الأوروبية هي البداية الفعلية لكونية إنسانية حقيقية. والمطلوب هنا هو العمل على بناء مجتمع مفتوح كسمبولوتي مترابط في اختلافاته وتعدديته، عبر الخروج مما أطلق عليه محمد إقبال «وثنية العرق والقبيلة».
ولا يخفي ديان امتعاضه من أزمة الكونية في الفكر الغربي المعاصر، رغم أن الغرب الحديث هو الذي أبدع مقولة الكونية في مقوماتها وأبعادها الإنسانية الرحبة. لقد تأسست مقولة الكونية على مرجعيات ثلاث كبرى، أولاها فكرة الوعي من حيث هي تعبير عن الهوية الذاتية المشتركة بين البشر، وهي الإطار التصوري الشامل لحركية الفكر والبناء الاجتماعي للعصور الحديثة، وثانيتها التاريخانية، أي استكشاف آفاق التاريخ بصفته مدار الحركية الإيجابية التطورية للزمن وفق مسار تتابعي تخضع له كل المجتمعات والثقافات.
أما المرجعية الثالثة والأخيرة فهي العلم الوضعي التجريبي، منظوراً إليه بوصفه مسلكاً أوحد للحقيقة والمعنى، ونهجاً قابلاً للتعميم على مختلف الظواهر الطبيعية والإنسانية. لقد تعرضت هذه المرجعيات في العقود الأخيرة لانتقادات محورية، تركت أثرها السلبي على الوعي الإنساني بمسألة الكونية. وعلى مستوى فكرة الوعي، شهدت الفلسفة المعاصرة ظهور اتجاهات عديدة للخروج من براديغم الذاتية، وذلك بالتركيز على مقتضيات الاعتراف والتنوع والاختلاف.
وقد شكّل ما أطلق عليه البعضُ «المنعرج اللغوي» نقطةَ تحول كبرى في الفكر الغربي، بما دشنه من مسارات التأويل والتفكيك في ما وراء قصدية الذات المفكرة ومقاييس الإنسانية النظرية. وبالنسبة للنزعة التاريخانية، قامت العلوم الإنسانية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على تقويض المسلمات الغائية التتابعية في تصور الزمن الكوني الموحد، بما نلمسه في القول بتعددية الزمن التاريخي، وبالقطائع والانفصالات في موجة التغييرات التي تمس المجتمعات والثقافات.
وهكذا كان إعلان «نهاية التاريخ» (وفق عبارة الكسندر كوجيف التي اشتهرت مع فرانسيس فوكوياما) إعلاناً لنهاية الإنسان (حسب مقولة ميشال فوكو الشهيرة). أما النزعة الوضعية التي اعتبرت القوانين العلمية مفاتيح فهم الطبيعة والمجتمع، فقد تعرضت لانتكاسة قوية مع الإبستمولوجيات النقدية التي قوضت مفهوم «الحقيقة الموضوعية»، مظهِرةً أن النظريات العلمية ليست سوى مقاربات تجريبية محدودة بمجالها المخبري، تخضع للنفي الدائم والتفنيد المستمر، ولا تكون أبداً يقينية بل ملائمة مقبولة فقط، كما أن محاولة تمديدها إلى الظواهر الإنسانية ممتنعة، ومن ثم فإن ما يدعى بالعلوم الإنسانية هي مجرد معارف تأويلية لسانية تخضع لمسلك الفهم لا منطق التفسير الموضوعي الدقيق.
وبالرجوع إلى أطروحة ديان، ندرك أنه لا يدعو إلى النكوص نحو الضرب السابق من الكونية الذي يعبِّر عن تجربة فكرية ومجتمعية محدودة هي تجربة الحداثة الغربية في تصورها للطبيعة والتاريخ والعقل، وهي تجربة في طور التجاوز كما بينا في الملاحظات السابقة.
إنه يدعونا إلى إعادة بناء الكونية الإنسانية، لا الخروج من هذا الأفق المرجعي الذي هو مكسب كبير للبشرية الراشدة، وكل تنكر له يفضي إما إلى القول بتراتب وتفاوت الثقافات أو إلى اعتبارها جزراً متقطعة معزولة عن بعضها بعضاً. الكونية التي يدعو إليها ديان هي الكونية الكسمبولوتية التي تعد المثال الإنساني «فكرة موجهة» بالمفهوم الكانطي وليس واقعاً قائماً يفرض بالقوة أو بمنطق الاستنساخ. إنها كونية متقاسمة تبنى بمنطق الحوار والتفاعل الإيجابي والتضامن بين بني الإنسانية دون وصاية أو هيمنة أو مركزية ثقافية.
* أكاديمي موريتاني