ربما نشعر باختلافات كبيرة عند التفكير في المقارنة بين مدينتي أبوظبي وجنيف، فإحداهما محاطة بالصحراء والسواحل، والأخرى محاطة بالجبال والبحيرات، لكني في الحقيقة أرى العديد من العوامل المشتركة بينهما، لعل أهمها ارتفاع درجة الحرارة بشكل أسرع من المتوسط العالمي في المدينتين، واعتماد كل منهما على البنية التحتية القوية كأحد الحلول الرئيسية في مواجهة مشاكل المناخ والتعامل مع تأثير التغير المناخي على حياة السكان.
تتمثل رؤية حكومتنا الرشيدة في أبوظبي بالمحافظة على مكانتها بين أكثر المدن تقدماً في العالم، والارتقاء بالإمارة في طليعة المدن الذكية والآمنة والمستدامة المفضلة للعيش، حيث يفخر المواطنون والمقيمون بكونها موطنهم، وهنا تظهر أهمية دور البنية التحتية التي تشكل حجر الأساس في ترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس، حيث تحسن البنية التحتية الجيدة حياة الناس، وتقوي الترابط بينهم، إضافة إلى دورها في تسهيل الحركة التجارية التي تدفع عجلة النمو الاقتصادي بالشكل الذي يسهم في تعزيز جودة الحياة وتحقيق رفاهية أفراد المجتمع.
وبالنظر إلى عناصر البنية التحتية الجيدة وتحليل أثرها في حياتنا، فإننا نجد أن نظام النقل العام المصمم جيداً لا يقلل من زمن التنقل والازدحام فحسب، بل يقلل أيضاً من حجم التلوث البيئي الذي نرغب في مواجهته، وهنا نرى أن سويسرا تتميز بنظام نقل عام من الدرجة الأولى طُوِّر على مدى عقود عديدة، وبينما تعد أبوظبي مدينة أكثر حداثة في هذا المجال، إلّا أنها استطاعت إثبات قدرتها على تجاوز العقبات لتحقيق التنمية والتحول في نهجها، حيث بدأنا بالفعل في العمل على توسيع مشاريعنا التجريبية لحلول النقل المبتكرة، مما مكننا من إطلاق خدمات مركبات ذكية ذاتية القيادة، منها مركبات الأجرة ومركبات النقل السريع بالسكك الحديدية.
تتبنى أبوظبي أفضل الممارسات والتقنيات التي تقلل من التأثير البيئي، وتعزز كفاءة الطاقة، وتضمن القدرة على الصمود في مواجهة تحديات تغير المناخ، وبصفتي رئيساً لدائرة البلديات والنقل، فإنني أؤكد التزام الدائرة بالتنقل الذكي كوسيلة لتحقيق رؤيتنا في توفير شبكة تنقل متكاملة، وخدمات نقل مميزة، وفق أعلى معايير الجودة والكفاءة لسكان إمارتنا.
تمكنت دولة الإمارات العربية المتحدة من الحصول على المركز السابع في مؤشر جاهزية التنقل الكهربائي العالمي، وتعد واحدة من أكثر الدول امتلاكاً لمحطات شحن المركبات في العالم، مما يدفعنا إلى مواصلة العمل على بناء نظام متكامل يجمع كل وسائل النقل تحت سقف واحد – سواء كانت حافلات تعمل بالكهرباء والهيدروجين، أو سيارات أجرة ذاتية القيادة، أو مركبات خاصة – بالإضافة إلى تركيزنا على توفير محطات الشحن السريع لضمان قدرة السائقين على إعادة شحن سياراتهم الكهربائية، وبتكلفة مناسبة.
واليوم تتصدر أبوظبي مدن العالم في المرتبة الثالثة على «مؤشر المدينة الذكية» الذي يطلقه المعهد الدولي للإدارة، ولكننا نتطلع إلى أن تكون أبوظبي المدينة الأذكى في العالم.
مدينة متنامية
إنني حين أتطلع لرؤية أبوظبي المدينة الأذكى في العالم، فأنا هنا لا أتباهى، رغم أننا نفخر دائماً بإنجازاتنا وما حققناه في زمن يعد قياسياً إذا ما قارناه بمدن العالم الأخرى، لكنني هنا أتحدث بطموح كبير وثقة بالمستقبل يؤكدها ما تشهده الإمارة اليوم من تحول عمراني مذهل، يجعلنا نتوقع أن يتضاعف عدد سكانها ليبلغ 6 ملايين نسمة بحلول عام 2040. يعيش 54% من سكان العالم اليوم في مراكز حضرية، وهو نمو متسارع في مختلف أنحاء العالم، إذ تشير التوقعات إلى أن هذا الرقم سوف يصل إلى 66% بحلول عام 2050، وهذا الارتفاع يعني زيادة التنافس على الموارد المتناقصة باستمرار، فضلاً عن الحاجة إلى تقديم خدمات فعالة ومستدامة.
يتطلب هذا الحجم والوتيرة من التغيير نهجاً مدروساً لإدارة النمو، وهذا ما نقوم به في أبوظبي، حيث نعمل على وضع مخطط واضح لتحقيق النمو بطريقة مستدامة، ولعل أحد المعالم الرئيسية في تطوير خطتنا هو إنشاء مركز أبوظبي للمشاريع والبنية التحتية، في العام الماضي، للإشراف على المشاريع الرأسمالية في مختلف أنحاء الإمارة، ويتولى المركز حالياً مسؤولية ما يزيد على 600 مشروع، بقيمة تقارب 200 مليار درهم، في مجالات الإسكان والتعليم والسياحة والموارد الطبيعية، وتشمل بناء وتحسين الحدائق والأماكن العامة وممرات المشاة والملاعب ومسارات الدراجات المتخصصة، بالإضافة إلى أماكن العبادة والمراكز المجتمعية والرياضية ومراكز التسوق، والمزيد من الابتكارات في مجال النقل والتنقل.
النمو المستدام
إن طموحنا في الوصول إلى المدينة الأذكى يعني بالتأكيد مدينة مستدامة، وهو ما نسعى لتحقيقه ليس فقط عبر استخدام المواد الأكثر استدامة والتقنيات الذكية التي تقلل من الانبعاثات، ولكن أيضاً من خلال التصميم العمراني المستدام للمناظر الطبيعية والمساحات العامة بشكل قادر على تقليل تأثير درجات الحرارة المرتفعة.
ولأننا نستمد حضارتنا من إرثنا وتراثنا العريق، فقد استفدنا من تجربة أسلافنا الذين أدركوا جيداً أهمية تصميم المباني بما يتلاءم مع درجات الحرارة المرتفعة في المنطقة، فقاموا ببناء ما يعرف بـ «البراجيل» أو أبراج الرياح كإحدى أهم طرق التبريد المستخدمة في العمارة الخليجية التقليدية، إذ تعمل هذه الأبراج على التقاط الهواء البارد وتوجيهه إلى المبنى، وفي الوقت نفسه تطرد الهواء الدافئ، وتعمل كمكيفات هواء طبيعية.
ولقد استوحى المهندسون المعماريون حول العالم نظام التظليل الذي يمتد على طول واجهة أبراج البحر في أبوظبي، من تصاميم المشربيات العربية، وهي عبارة عن شاشات تعمل على توزيع أشعة الشمس، وتحافظ على برودة المباني دون حجب الضوء، وهذا يجعلها أكثر راحة لساكنيها، كما يعني استخدام قدر أقل من الطاقة في تبريدها.
البنية التحتية الجيدة لا تقتصر على التميز في التصميم فحسب، بل يجب أن تكون جزءاً من رؤية شاملة تتبنى عناصر التكنولوجيا والاستدامة لإعادة تعريف الحياة الحضرية، وتعد أبوظبي رائدة في هذا الصدد، حيث أنشأت مدينة مصدر، عندما كان مفهوم المدن المستدامة لا يزال في مهده، و«نور أبوظبي»، التي تعد أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم، وتوفر الطاقة لـ 66 ألف منزل، إلى جانب تشغيل محطة براكة، وهي أول محطة للطاقة النووية في المنطقة، التي ستنتج قريباً ما يكفي من الكهرباء النظيفة لتوفير ربع احتياجات دولة الإمارات العربية المتحدة بأكملها.
إدارة المخاطر
يتعين على البنية التحتية الجيدة أن تكون مستدامة مالياً وبيئياً، إلى جانب إدارة سليمة للمخاطر – خاصة المخاطر المالية – مما يشكل موازنة دقيقة تتطلب تخطيطاً محكماً ونماذج مالية قوية، والالتزام بمعايير الشفافية والمساءلة.
ولعل الاستفادة من الشراكات بين القطاعين العام والخاص، تعد أحد مفاتيح النجاح في هذا المجال، فهذه الشراكات قادرة على حشد استثمارات القطاع الخاص، والابتكار، والكفاءة، إلى جانب مشاركة المخاطر والمنافع، وتعد الشراكات الدولية التي عقدتها شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) لتطوير البنية التحتية للطاقة، خير مثال على ذلك، إذ عملت هذه الاستراتيجية على تخفيف المخاطر المالية، بالإضافة إلى اجتذاب الاستثمارات الأجنبية الكبيرة، مما ساهم في تعزيز النمو الاقتصادي والتطور.
برأيي، من الممكن أن تكون البنية التحتية حافزاً قوياً للتغيير الإيجابي إذا اتبعنا النهج الصحيح، وركزنا على الفوائد الشاملة لها، وضمنا استدامتها، وإدارة المخاطر فيها بحكمة، مما يتيح لنا بناء مدن أفضل وأكثر ملاءمة للعيش نحو مستقبل أكثر إشراقاً للجميع.
*رئيس دائرة البلديات والنقل