شهدت المواجهة الجارية في لبنان خلال الأيام الأخيرة تطورات ذات دلالات خطيرة تتعلق بمستقبل الحروب، وذلك باستحداث تطبيقات مستجدة للهجمات السيبرانية، فبدلاً من أن تنال هذه الهجمات أهدافاً محددة تتعلق بقدرات الجانب الآخر المادية، اتجهت هذه المرة إلى القوام البشري لقوات الخصم، مشيرةً بذلك إلى الآفاق الخطيرة لما يمكن أن تصل إليها الحرب السيبرانية، إذ يصبح في مقدورنا أن نتخيل حروباً ضاريةً تغير موازين قوى دولية فتخرج قوى فاعلة من ساحات الصراع، وتحل محلها قوى أخرى، وذلك دون أن نشاهد جيوشاً جرارةً تتحرك على الأرض وطائرات ووحدات بحرية بالغة القوة تغير وتهاجم.. وإنما يتم الأمرُ كلُّه بالضغط على أزرار، فتُكْسَب الحرب دون أيٍّ من تلك المظاهر الصاخبة التي ميزت الحروب على مدار التاريخ البشري.
والرسالة واضحة لكل مَن يريد أن يكتسب مكانةً أو يرفعها في الساحة الدولية، وهي أن مفتاح التفوق يبدأ بامتلاك ناصية التكنولوجيا. صحيح أن الحروب كلها تعتمد على التكنولوجيا، لكن المقصود هنا هو التكنولوجيا فائقة التقدم التي تمكن الفاعلين الدوليين من توظيف الحرب السيبرانية في تحقيق أهدافهم. على أن التتمة المهمة لهذه الرسالة هي أن التفوق التكنولوجي لا يعني امتلاك التكنولوجيا بمعنى شرائها، وإنما القدرة على فهم أسرارها وتصنيع أدواتها، وإلا أصبحت أداةً في يد الخصم يستخدمها للتلاعب بعدوه متى شاء، كما رأينا في الأحداث الأخيرة في لبنان.
على أنه من المهم أيضاً التنبيه إلى أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي، وإنما يجب أن تدعمها قدرة استخباراتية هائلة على جمع المعلومات الصحيحة عن الأهداف المراد تدميرها؛ فما فائدة امتلاك القدرة على التدمير إذا كانت الهجمات السيبرانية أو أي هجمات سوف تتجه لغير الهدف. صحيح أن القدرة الاستخبارية بدورها تعتمد اعتماداً كبيراً على التكنولوجيا، لكن الواضح أنه لا غنى لها عن «المخبر» التقليدي الذي يتمكن من اختراق صفوف الخصم ومن معرفة أدق التفاصيل حول قراراته وتحركاته.
وسوف يكون لهذه التطورات تداعياتها المهمة على قضايا دولية عديدة، وعلى سبيل المثال فإن خبرة الهجمات السيبرانية السابقة كانت تشير إلى ضرب أهداف مادية للطرف الآخر تتعطل بموجبها قدراته، وقد تسبب هذه الهجمات - بشكل عرضي - خسائر بشرية، أما الهجمات الأخيرة فهي موجهة للبشر، وهو ما أثار فكرةَ ربطها بالإرهاب، وهي تهمة ترددت أصداؤها في جلسة مجلس الأمن التي انعقدت بطلب من لبنان.
والواقع أن أحد معايير وصف عمل ما بأنه إرهابي أن يُفضي إلى قتل أبرياء، وهو ما ترتب على تفجير أجهزة الاتصالات التي كان يحمل بعضَها مسعفون وأطباء، كما أن ضحايا الانفجارات لم يكونوا من المستهدفين بها فقط، وإنما أيضاً بعض مَن تصادف وجودُهم لحظة الانفجارات بجوار المستهدفين.
وسوف تسعى دول بالتأكيد إلى البحث عن ضمانة ضد هذا النوع من الإرهاب في اتفاقات دولية، وستثور خلافات شديدة في هذا الصدد، وقد يتم التوصل إلى اتفاق بعد لأي، ولن يتم احترامه بالتأكيد كدأب المجتمع الدولي الذي يعطي للقوة أولويةً على ما عداها، وسوف تسعى دول للحاق بركب التكنولوجيا لتفادي تراجع مكانتها.. وفي كل الأحوال، فإن العالم بعد الهجمات السيبرانية الأخيرة لن يكون بالتأكيد كما كان قبلها.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة